طوال السنوات الخمس الماضية ومع تشعب الصراع السوري وتعدد المجموعات المتقاتلة وبروز "داعش" ونجاح المجموعات المتطرفة الى حد كبير باقصاء مقاتلي المعارضة المعتدلة، كان ​أكراد سوريا​ يعملون بصمت. يرسمون حدود "دولتهم الحلم" ويضعون آليات التنفيذ ويستخدمونها، حتى أتت واشنطن تمد لهم يد العون اقتناعا منها انّهم القوة الأكثر تنظيما والأكثر قدرة على القتال في الداخل السوري. كيف لا والهدف الكبير لمعركتهم الحصول على المنطقة الخاصة بهم التي لطالما سعوا اليها.

وضعت "​وحدات حماية الشعب الكردي​" نصب أعينها أكثر من هدف مرحلي على مسار الهدف الاستراتيجي، فحققت القسم الأكبر من هذه الأهداف. الا أنّه ومع اقترابها من اتمام مهمتها بنجاح وبالتحديد بعد طرد "داعش" من منبج واستعدادها لتطهير ​جرابلس​ تمهيدا لوصل المنطقة التي تسيطر عليها شرق نهر الفرات بعفرين، كان لعدوها اللدود تركيا رأي آخر. فما سمحت به أو غضت الطرف عنه طوال السنوات الماضية لم يعد من المسموح التسامح به مع اقتراب الأكراد من فرض دولتهم بقوة الأمر الواقع. لم تتردد أنقرة بالاعتذار من الروس وبطرق أبواب طهران وحتى الاعلان عن نيتها التطبيع مع النظام السوري. كل ذلك وأكثر ثمنا لقطع الطريق على الأكراد واحباط مخططاتهم.

وبضوء أخضر من كل الدول السابق ذكرها وبغض طرف أميركي، قرر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان التوغل برا في سوريا، وهو ما تجنبه طوال السنوات الماضية رغم المخاطر الجمة التي كانت ولا تزال محدقة بحدوده. وقد أتت حجة التوغل ضعيفة خاصة وأن المعركة التي جُمع من أجلها كل ما تبقى من فصائل الجيش الحر وتمّ دعمها برًا من قبل تركيا وجوًا من قبل التحالف الدولي، لم تحصل بعدما قرر "داعش" الانسحاب من جرابلس من دون أن يتضح ما اذا حصل ذلك نتيجة اتفاق مسبق مع أنقرة التي شكلت لسنوات الممر الوحيد لمتطرفي التنظيم من والى سوريا أو بقرار من قيادة "داعش" التي فضلت عدم المواجهة والانسحاب.

وتشير كل المعطيات الى ان عملية "​درع الفرات​" كانت موجهة ضد الأكراد ولا أحد سواهم باطار تسوية قررت على أساسها أنقرة تسليم رأس "داعش" مقابل تسليمها رأس "أكراد سوريا" من خلال وضع حد لطموحهم التوسعي. وجاء تصريح نائب الرئيس الأميركي ​جو بايدن​، والذي دعا فيه الاكراد للانسحاب من منبج والمناطق المحيطة الى شرق الفرات، بمثابة جرس انذار للوحدات الكردية التي سارعت لتلبية الطلب الأميركي خوفا من فقدان الحليف الاستراتيجي الذي أوصلها الى فائض قوة ما كانت لتحلم به يوما.

وبالرغم من كل محاولات المسؤولين الكرد التخفيف من وطأة المرحلة الحالية والتي قد تكون الاصعب بالنسبة لهم، الا ان أحدهم لا يتردد بتوصيف ما يحصل بـ"الحرب" عليهم ليردف بعدها انّها "حرب عالمية". ويضيف: "حاربنا التنظيم الأكثر خطورة في أنحاء العالم وهزمناه في كوباني والشدادي ومنبج وغيرها كثير من المدن والبلدات ولم يرف لنا جفن. نحن أصحاب قضية محقة ولن تستطيع كل قوى العالم لو اجتمعت اعادتنا الى الوراء. نحن أصبحنا في الأمام ولن نتراجع مهما بلغ حجم الضغوط".

ويعي الاكراد أن اجبارهم على التراجع الى شرق نهر الفرات قد يليه في مراحل لاحقة التضييق عليهم أكثر في المناطق التي يسيطرون عليها غربا لذلك يحاولون التمسك أكثر فأكثر بالغطاء الأميركي الوحيد القادر برأيهم على حمايتهم من المخططات التركية في هذا المجال. وقد جعلت التطورات الأخيرة، المكون الكردي في الشمال السوري يعد للعشرة قبل الخروج للاعلان رسميا عن اعتماد الفدرالية بعد الانتهاء من اعداد العقد الاجتماعي الذي ستلتزم به المناطق الخاضعة للنظام الفدرالي، الا ان ذلك لن يطول كثيرا خاصة مع تبلور كل ملامح الاستقلالية الكردية اجتماعيا وأمنيا واقتصاديا وسياسيا.

بالمحصلة، حتى ولو كانت مسألة تخلي واشنطن عن الاكراد مسألة وقت، لن يكون من السهل، حتى ولو اتفقت كل دول العالم على حرق ورقتهم، تحجيم القدرات الهائلة للوحدات وعلى الاصعدة كافة. ولعل المعركة المقبلة في الداخل السوري ستتحول من كونها معركة نظام-معارضة الى معركة الأكراد بوجه العالم!