تركيا الآن دولة شرق أوسطية بالكامل. من انعطافة الى أخرى، تحاول تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان أن تعوّض عما لم يتم توظيفه في الماضي من قدرات وإمكانات، استناداً الى نظرية «صفر مشكلات» التي أطلقها رئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو. وهي أيضا تُعيد النظر بمرتكزات الدولة التي انشأها أتاتورك على أنقاض السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

تحاول تركيا أردوغان أن تستعيد أدواراً ولّى زمنها، بعدما اكتفت لعقود بطموح العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي والانخراط بالمعسكر الغربي في بدايات الحرب الباردة عبر الانضمام الى حلف شمال الاطلسي.

هل إن ما يحصل في تركيا اليوم يعود الى تحولات في تطلعات الأجيال، أم صراع محوره السلطة والهوية؟ والى أي مدى هذا التحول مرتبط بأردوغان وحزبه وطموحاته، وإلى أي مدى يعكس أحوال البلاد المتغيرة، مثلما هي حال الدول والشعوب في تصوّرها لدورها وموقعها بين حقبة وأخرى؟

في السياسة الخارجية تشهد تركيا تقلبات غير مألوفة، شكلا ومضمونا: سياسة تجمع ما بين الراديكالية والبراغماتية من تناقضات، وفي الحالتين الى حدود قصوى. تُسقط انقرة مقاتلة روسية عن سابق تصور وتصميم وتُعيد العلاقات مع موسكو بعد فترة قصيرة الى سابق عهدها وبترحاب لافت. تقطع علاقاتها مع اسرائيل احتجاجا على حصار غزة وتُعيد الأوضاع الى مجراها الطبيعي بتسوية متكاملة، والحصار لا يزال قائما. تطلب انقرة تسريع مفاوضات الانضمام الى الاتحاد الاوروبي ولا تتردد بالدخول في صفقات جدول اعمالها ابتزاز دول الاتحاد بأداة اللاجئين. تتهم واشنطن بحماية الداعية الاسلامي المعارض فتح الله غولن وتجزم بتورطه في الانقلاب الفاشل، وتصل الى حدّ التهديد بإعادة النظر بعلاقاتها مع واشنطن والحلف الاطلسي.

تقع القطيعة بين مصر وتركيا بسبب دعم انقره التنظيمات السلفية المسلحة في سيناء والاخوان المسلمين، وهي ترفض اي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية. وحتى العلاقة مع السعودية وقطر، وإن كانت نسبيا اقل توتراً من سواها في مواجهة «العدو المشترك» في سوريا، فهي لا تخلو من التعقيدات والثقة عرضة للاهتزاز الدائم. تدعم تركيا اكثر التكفيريين تطرفاً القادمين من دول العالم كافة الى ساحات القتال في العراق وسوريا، وتطالب بشراكة كاملة في أية تسوية للأزمة السورية. وكانت تركيا قد سعت لمصالحة تاريخية مع الدولة الأرمينية وهي ترفض الاعتراف بالإبادة التي ذهب ضحيتها الشعب الأرمني.

الثابت الى الآن في السياسة الخارجية التركية، العلاقة السوية مع ايران على رغم التوتر الذي يعتريها وحرص كل من الطرفين على ابقاء المسائل الخلافية تحت السيطرة. الأكراد ثابتة أخرى، وهي حالة عداء موروثة وجامعة داخلياً منذ قيام الدولة في عشرينيات القرن الماضي.

قليلة هي الدول التي اصطدمت مع العالم الخارجي دفعة واحدة. عندما تجرّأ جمال عبد الناصر على مواجهة بريطانيا وفرنسا وأعلن تأميم شركة قناة السويس في العام 1956، كان العالم في خضمّ الحرب الباردة. وعندما شَهَرت السعودية «سلاح النفط» بوجه اميركا واسرائيل في حرب 1973، كان الخليج العربي المصدر الاول للطاقة في العالم. وعندما اطاحت ايران الاسلامية حكم الشاه، كانت القطيعة متوازية مع معسكرَيْ الشرق والغرب لسنوات طويلة.

قد تكون الحالة الأقرب الى تركيا الأردوغانية، حالة صدام حسين بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية، عندما ظن انه قادر على مواجهة الاجماع الدولي وجيرانه دول الخليج العربي، فاحتل الكويت ولم يكترث، الى ان تمت ازاحته بالقوة.

تركيا على تقاطع طرق متعدد الاتجاهات: بين هوية السلطة وسلطة الهوية، هل ستجد تركيا نقطة ارتكاز جديدة؟ محاولة الانقلاب الأخيرة فتحت الطريق لانقلاب على الانقلاب في الداخل، وبالتالي لمزيد من الانغلاق والاستبداد، يقابله المزيد من البراغماتية في التعامل مع الخارج. هل هذا هو المنحى الجديد في السياسة الخارجية التركية، أم انها ضرورة ظرفية للتعامل مع الازمات المتراكمة؟

التعاون بين موسكو وأنقرة يفتح آفاقا جديدة لتسوية سياسية في سوريا، لا تعارضها واشنطن وإن لم تؤيدها بالكامل في الوقت الضائع بانتظار ما ستؤول اليه الانتخابات الرئاسية. الامتحان الأقرب والأصعب عنوانه سوريا والحرب «العالمية» الدائرة على ارضها. البوابة السورية التي راهنت عليها انقرة مدخلا آمنا وحاسما الى العالم العربي على قاعدة السقوط الحتمي للنظام، سرعان ما تحولت الى حائط يصعب اختراقه الا بتسوية يتشارك فيها اطراف النزاع المحلية والاقليمية والدولية.

أي تركيا قد تظهر في صراعات لم تنته. ولِمَن الغلبة؟ للجغرافيا أم للتاريخ، أم «للرجل المريض»، على حد تعبير القيصر الروسي في منتصف القرن التاسع عشر، الذي استمر رغم «مرضه» لعقود الى حين سقوط الامبراطورية؟