يزداد في الفترة الاخيرة، وبشكل مضطرد، الحديث عن الاهتمام بالمغتربين ال​لبنان​يين وحثّهم على طلبهم لجنسيتهم اللبنانية، حتى انه خصص لهم (افتراضيا) مقاعد في مجلس النواب "كرمى لعيونهم" ودفعهم على طلب العودة الى الوطن الام.

لا شك أن هذه الاغراءات لا يمكن مقاومتها، فالمسؤولون في لبنان يعدون المغتربين بأن عودتهم الى لبنان ستجعلهم يعيشون في عالم آخر، وهم محقّون في ذلك. ولكن ما لم يفهمه ​المغتربون​ جيداً، هو ان هذا الوعد صالح وصادق انما من الناحية السلبيّة. إن أول ما سيودّعه (او تودعه، ويمكن اعتبار الصيغة نفسها صالحة للمؤنث في كل ما يلي) من قرّر العودة الى لبنان من الخارج، هو أبسط مقومات الحياة اليومية، من ماء وكهرباء ووسائل نقل عامة، ورعاية صحية محترمة إذا كان يتّكل على الضمان الاجتماعي، ناهيك عن "الموضة" الجديدة وهي خطر عودة النفايات الى الشارع كلما ظهرت بوادر مشكلة او اختلاف في الرأي.

ولكن هذه الامور قد يمكن تخطّيها، وإذا جاهد المغترب وقرّر التضحية بها من اجل حنينه الى الوطن والعيش مع اهله، سيجد نفسه عندها وجهاً لوجه مع مشكلة العمل. فكيف سيؤمن العمل الذي يكفيه للعيش الكريم طوال الشهر، والذي سيعتمد عليه لشراء منزل عندما يجد "نصفه الآخر"، اذ انه في حال نجح في تأمين القرض اللازم سيضطر أحفاده الى إيفاء الدفعات المتوجبة عليه بعد 30 سنة!

كيف سيحلّ المغترب المصاعب التي ستواجهه كل يوم؟ عبر القضاء؟ بالطبع لا، لأنّ عليه الاعتياد على حل مشاكله بنفسه فيطرق هذا الباب او ذاك، او يعتمد على صديق يعرف شخصاً من اصحاب النفوذ يسهّل عليه حياته عند اصطدامه بأي عائق أكان يتعلق بمشكلة سير او بما يصل الى حدود الجريمة.

واذا لعب الفضول دوره، ودفعه الى الإنضمام الى أحد الاحزاب اللبنانية، فلن ينفع التفكير او التخطيط لأن عليه تنفيذ ما يقوله له زعيم الحزب، فيرتاح هو من عناء التفكير ويتركه للزعيم ليقتصر دوره كحزبي على التقيّد بالتعليمات مهما كان نوعها، دون القدرة على المحاسبة او رفع الصوت عالياً.

لن يختلط المغترب العائد بالكثير من السيّاح في لبنان، لكنه سيجد في المقابل العديد من اللاجئين يصادفهم أينما حلّ من منزله الى عمله الى مراكز التبضّع والتسوق، وصولاً الى أماكن السهر، وسيعتبر نفسه مغترباً بالفعل.

لن يتمكن الوافد الجديد الى لبنان، "الهروب" من حياته اليومية الى أيّ منتجع لبناني ولو لأيّام محدودة، لأنّ ما سيطالعه هو السعر الباهظ الذي سيدفعه لقضاء يومين او اكثر في منتجع او فندق لبناني، وهو سيفضل حتماً الذهاب الى دولة أخرى ومن خلال وكالات سفر لبنانية، يقضي فيها اسبوعاً او اكثر بنفس الكلفة.

وحين يستفيق المغترب على أنه غير قادر على تحمل الأمر، سيبحث عن جواز سفره القديم (الّذي يحمل خلاله جنسيّته الثانية) لأن جواز سفره اللبناني سيجعله "محطّ شبهة" في المطارات الغربية والعالمية، وسيترك كل هذه "الاغراءات" التي وُعد بها وعمل للحصول عليها، ويختار العودة الى حياته السابقة حيث كان ينعم على الأقلّ بأبسط مقومات العيش الكريم دون القلق من الغد وما سيحمله اليه مفاجآت قد تنسف مخططاته وطموحاته.

لبنان على شفير اجتياح من مغتربيه في الخارج؟ انه حلم لن يتحقق خصوصاً وان اللبنانيين يعملون ليل نهار للحصول على تأشيرة الى الخارج للهروب من الواقع اللبناني الاليم الذي وجدوا أنفسهم فيه، ومن المنصف القول ان شريحة كبيرة منهم تفكر في طريقة ملائمة لإرسال أولادها الى الخارج ليكملوا حياتهم ومسيرتهم العلميّة كما يشاؤون.