في الحرب، لا تتجلّى الحقيقة في ما يقوله قادة السياسة والعسكر بل في ما يفعلونه. الأرضُ أصدق إنباءً من الكتب والألسنة. ما جرى ويجري على أرض الشمال السوري يشي بحقيقةِ ما يريده أطراف الصراع الناشطون: الكرد وحلفاؤهم إلى شرق نهر الفرات، والترك وحلفاؤهم إلى غربه. ماذا عن حلب؟ ماذا عن مستقبل سورية أرضاً وشعباً ودولة؟

ليس ما يقوله أطراف الصراع في هذه الآونة يُعبّر عن حقيقة مخططاتهم وأغراضهم، إنما يؤشّر فقط إلى بعض ما يريدونه ميدانياً:

ـ واشنطن طمأنت أنقرة إلى أن لا وجود ولا كيان كردي إلى الغرب من الفرات، وأنّ نشاط المقاتلين الأكراد إلى الشرق منه يجري توظيفه بمعرفتها وتحت رقابة «مستشاريها العسكريين» في عمليةٍ متدرّجة لزحزحة «داعش» عن ريف حلب ومحافظة الرقة.

ـ أنقرة تظاهرت بتصديق ما قاله الأميركيون وانصرفت إلى تعزيز الفصائل العسكرية المتحالفة والمتواطئة معها، ولا سيما «الجيش السوري الحرّ»، من أجل مقاتلة «داعش» في ما تبقّى له من مواقع في غرب الفرات والحلول محله.

ـ موسكو لا تمانع في ما يقوم به الأميركيون والأتراك إنما تطالبهم بالتنسيق مع دمشق احتراماً لسيادتها على أراضيها، كما تطالبهم بفصل الفصائل المتحالفة معهم عن «جبهة فتح الشام» جبهة «النصرة» سابقاً وتأكيد أنّ الأخيرة تنظيم إرهابي ويجب دحره ومقاتلته.

ـ طهران، كما موسكو، لا تمانع في ما سبق بيانه ويجري تنفيذه على الأرض مع التشديد على أمرين: وحدة سورية السياسية والجغرافية، ووجوب التنسيق مع جيشها في محاربة فصائل الإرهاب والعنف الأعمى.

ـ بغداد تجاري طهران وموسكو في موقفيهما مما يقوم به الأميركيون والأتراك في شرق الفرات مع حرصٍ على مراعاة واشنطن أكثر من غيرها لضرورة تأمين متطلبات تحرير الموصل من «داعش» بالسرعة الممكنة.

ـ تل أبيب تتقبّل على مضض ما تفعله واشنطن وأنقرة في الشمال السوري، لكنها لا تتوانى عن القيام سراً بكلّ ما من شأنه تمديد الحرب في سورية وعليها بقصد إضعافها وإرهاقها وصولاً إلى تفكيك وحدتها إلى كيانات اثنية ومذهبية وقَبَلية.

في مواكبة، كما في مواجهة، هذه التطورات تتمسك دمشق بثوابت استراتيجية وسياسية مُعلَنَة هي وحدة سورية أرضاً وشعباً ودولة، ووجوب التنسيق معها في الحرب على الإرهاب وفصائله جميعاً، والإصرار على إجلائها عن المناطق الواقعة كلّها تحت سيطرتها.

هذا، باختصار، ملخص الوضع الميداني بعد التدخل العسكري التركي في الشمال السوري. ماذا عن حلب والتطورات السياسية المحتملة في الحاضر والمستقبل المنظور؟

تشكّل حلب مؤشراً ومعياراً لرؤية أطراف الصراع إلى مستقبل سورية السياسي وما يمكن عمله على الصعيد الديبلوماسي في الأشهر الأربعة المقبلة، أي قبل انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما وتسلّم الرئيس أو الرئيسة الأميركي المنتخب سلطاته في العشرين من كانون الثاني/ يناير 2017.

واشنطن تعي ضغوط الحاجة إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، وبالتالي استئناف المفاوضات بشأنها في جنيف. يهمّها، والحالة هذه، تعزيز الوضع الميداني لحلفائها في «المعارضة السورية المعتدلة» وتتلاقى مع تركيا، بصورة عامة، في هذا المجال. ولاحتواء متطلبات استئناف المفاوضات، تحرص واشنطن على متابعة الضغط على دمشق ميدانياً للحؤول دون تسجيل مكاسب تعزّز مركزها التفاوضي. الاحتمال الأرجح في هذا السياق استمرار تلاقي واشنطن وأنقرة والرياض على مناوشة الجيش السوري للحؤول دون تحريره الأحياء الشرقية في حلب الواقعة تحت سيطرة فصائل إرهابية متعدّدة، كما عرقلة سيطرته على محيط حلب الشمالي والجنوبي أو تحريره محافظة إدلب.

إدارة أوباما تحرص على التزام هذا الموقف الى آخر يوم من ولايتها حتى لو أدّى إلى تأجيج الصراع وعدم استئناف المفاوضات، ذلك أنّ للولايات المتحدة استراتيجية ثابتة قوامها منع خصومها وخصوم «إسرائيل» من السيطرة على كلّ ما تعتبره مناطق ومواقع حساسة. وفي حال عجزها عن تحقيق ذلك، التشدّد لإبقاء المناطق الحساسة في حال فوضى متمادية. بعبارة أخرى، أن تكون لها السيطرة وحدها وإلاّ لتكن الفوضى لغيرها.

إلى ذلك، تتمسك واشنطن بموقفٍ أكدته لـ «إسرائيل» كما لدول الخليج يقضي بمواجهة تداعيات اتفاقها النووي مع إيران للحؤول دون استقوائها وحلفائها، أيّ سورية وقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية. ذلك يكون بمشاغلتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على نحوٍ يحول دون تطورها الى قوة إقليمية مركزية كبرى. لتحقيق هذا الغرض تدعم واشنطن أقليات اثنية ومذهبية في إيران والعراق وسورية ولبنان لمناوأة ومناوشة حكوماتها المركزية في إطار مخطط قديم حديث لتصديع وحدتها السياسية والجغرافية. أليس لافتاً قيام تنظيمات كردية في شمال غرب إيران مؤخراً بتفجير اضطرابات أمنية ضدّ الحكومة المركزية؟ ألم تقم عناصر بالوتشية مناوئة للحكومة في جنوب إيران باضطرابات مماثلة قبل أشهر؟ أليست لافتة مقادير الدعم العسكري التي تقدّمها واشنطن جهاراً للتنظيمات الكردية في محافظة الحسكة السورية وآخرها محاولة السيطرة على مركز المحافظة؟

دمشق وطهران وموسكو تدرك مرامي واشنطن و»إسرائيل» وتحاول معالجتها سياسياً وأحياناً عسكرياً، من خلال التواصل شبه المستمر القائم بين وزيري الخارجية الروسي والأميركي، ومن ضمنه لقاء جنيف المحدود النتائج. غير أنّ إمعان واشنطن في سياستها المتواطئة مع أنقرة، وبالتالي مع التنظيمات المتعاونة مع «جيش الفتح» النصرة تحديداً، لتدويم حربه في محيط حلب ولدعم سيطرته على محافظة إدلب ومنطقة القلمون على الحدود السورية اللبنانية سيحمل، على الأرجح، أهل القرار في العواصم الثلاث على التفكير جدياً في وجوب تحرير ما تبقّى من حلب ومحافظة إدلب قبل انتهاء ولاية أوباما تفادياً لصدام مع واشنطن سيكون أكثر احتمالاً وخطورة بعد وصول هيلاري كلينتون إلى سدّة الرئاسة وأرجحية تبنّيها خطة تدعو إلى فرض مناطق جوية محظورة على المقاتلات السورية… والتحذير من احتمال الاشتباك مع رديفتها القاذفات الروسية أيضاً!

وزير سابق