لم تدخل تركيا بجيشها الى ​جرابلس​ السورية ردة فعل على عمل او تهديد او خطر طارئ يهددها، بل كان عدوانها على الأرض السورية عدوانا مخططا منذ أكثر من ثلاث سنوات واعطي تسميات شتى كالقول بالمنطقة الامنة او منطقة الحظر الجوي او المنطقة المنزوعة السلاح او الممرات الإنسانية.

تركيا التي كانت المدير الإقليمي الأول لخطة العدوان الأولى على سورية، وهي الخطة التي اعتمدت على الاخوان المسلمين أساسا لها وعلى مشروع قوس الاخوان الممتد من شمال افريقيا الى سوريه ليكون بقيادة تركية، تركيا هذه وبعد فشلها في خطة السيطرة على كامل سورية خفضت سقف أهدافها بسبب العجز عن الحصول على الكل الى الطموح بامتلاك السيطرة على جزء يعوض خسارتها ويمكنها ان تجعل الاخوان الذي ينتمي إليهم اردغان، تجعلهم جزءا رئيسا ومؤثرا في السلطة السورية بعد ان عجزت عن فرضهم الطرف الوحيد في حكم سورية.

لكن الامر تعقد في المشهد السوري وعلى صعيد معسكر العدوان على سورية بعد فشل اميركا في خطة بندر السعودية التي قادتها وعولت عليها لأسقاط سورية من الجنوب ومن دمشق بالذات بشعار "بركان مشق ...زلزال سورية".

بعد الفشل الثاني رات اميركا في العام 2013 أي في العالم الثالث للعدوان ان ترجع الى أسلوب الجيوش التقليدية في السيطرة والاحتلال، وهولت بغزو سورية بقواتها الذاتية بعد ان اختلقت ذريعة كاذبة باتهامها الحكومة السورية باستعمال الأسلحة الكيماوية ثم طلبت من تركيا اجتياح القسم الشمالي من سورية لفرض واقع في الميدان يدفع الحكومة السورية الى الاستسلام حسب الرغبة الأميركية.

لم يرفض اردغان في المبدأ الطلب الأميركي لكنه اشترط ان لا تكون قواته وحدها من ينفذ العدوان، خاصة بعد ان سوي وضع الملف الكيماوي السوري وانتفت الذريعة وطوي ملف العدوان الأميركي المهول به على سورية، وطالب بمشاركة اطلسية واسعة مع الاستعداد لان يكون الجيش التركي العامود الفقري لقوى العدوان، فرفض الأطلسي الطلب التركي، ورفض التركي العمل منفردا بجيشه ولم تقنعه بطاريات الباتريوت الست التي نشرها الاطلسي في جنوب تركيا للانطلاق الى الميدان وحده.

مع تمسك كلا الطرفين بمواقفهما و لمعالجة الإخفاق الثاني لجأت اميركا الى الخطة الثالثة في سورية و العراق معا هذه المرة و هي خطة "داعش" ، التي شاءت منها اميركا في الحد الأدنى انتاج ذريعة العودة العسكرية الأميركية الى العراق و منه الى سورية ليكون لأميركا حضور عسكري ميداني فاعل لا يكتسي صفة الاحتلال بل يتخذ شرعيته من مهمة محاربة الإرهاب ، و في الحد الأقصى السيطرة على اكبر مساحة ممكنة من الأرض السورية لتكون بمثابة ورقة الضغط على الحكومة للاستسلام للإرادة الأميركية كليا او القبول بالخروج التدريجي من المشهد تحت عنوان المرحلة الانتقالية .

حققت اميركا من خطة داعش هدفها بالعودة الى المنطقة وأنشأت التحالف الدولي بقيادتها لهدف مزعوم هو قتال داعش وهي التنظيم الإرهابي الذي انشاته ورعته اميركا مع حلفائها ولا زالت تتعهده وتستثمر فيه حيث تريد، لكن اميركا فشلت في كسر الإرادة السورية واثبت الحكومة السورية بقيادة الرئيس الأسد مدعوما من حلفائه في محور المقاومة قدرة فائقة على التمسك بالثوابت والدفاع عنها مما كانت التضحيات. وبهذا تكون خطة داعش حققت لأميركا العودة الى المنطقة تحت عنوان محاربة الإرهاب (وهو نفاق أميركي فأميركا تستثمر بالإرهاب ولا تحاربه) وأخفقت في النيل من العزيمة السورية الدفاعية.

مع هذا الإخفاق الأميركي الثالث، رات اميركا ان تعتمد حرب الاستنزاف علها تبتدع خطة تعوض بها الفشل وكانت العين الاميركية على تركيا لتكون السلاح الاحتياط عند الحاجة. لكن تركيا التي تمسكت بشروط العمل الجماعي في إطار الأطلسي عادت الى طرح سابق كانت قد طالبت به في العام 2013 وهو المنطقة الامنة تحت سيطرتها وبإدارتها شبه المباشرة، فرفضت اميركا الطرح ليس حبا او حرصا على سورية وسيادتها او عملا بقواعد القانون الدولي التي تمتهن انتهاكه، بل كان الرفض الأميركي للطلب التركي بمثابة عقوبة لاردغان على تمنعه عن الاستجابة للطلب الأميركي، كما وأداة ضغط عليه حتى يتراجع عن رفضه.

في ظل هذا التشتت والتجاذب لدى معسكر العدوان خطا معسكر الدفاع عن سورية خطوة هامة في الثلث الأخير من العام 2015 بدخول الطيران الروسي في الميدان السوري، خطوة أدت الى فشل حرب الاستنزاف الأميركية ووضعت الازمة السورية في وضع يقود الى القول بان مشروع العدوان على سورية سقط وعلى أصحابه ان يتجهوا الى مرحلة التصفية والتراجع واعتماد سياسة تحديد الخسائر.

لكن المكابرة الأميركية ورفض الإقرار بالهزيمة حملت اميركا على العودة الى الميدان والتلاعب به من باب اثارة الأدوات بعضها على بعض لتضغط على هذا بذاك. وبعد ان لعبت اميركا مسرحية الانقلاب في تركيا الذي أطلقته وافشلته بعد 3 ساعات لتهز اردغان ثم لتمكنه من تركيا التي تشكل فيها الان جمر تحت الرماد بعد الانقلاب، اتجهت الى لعب الورقة الكردية التي تستفز اردغان ايما استفزاز. وقدمت اميركا كل الدعم للأكراد بما أوحى بانها جادة في انشاء اقليم كردستان الغربي على الأرض السورية في خطوة تسبق او قد تسبق قيام كردستان الشمالي على الأرض التركية او تهدد بها على الأقل.

هنا سقط اردغان في الفخ الأميركي واستجاب للطلب الأميركي وظن انه في عدوانه على سورية واحتلاله لجرابلس أولا ومنها الى منطقة أوسع حولها يحقق ما كان يشتهيه من إقامة المنطقة الامنة في سورية بعرض 100 كلم وعمق اولي يصل الى 45 كلم، منطقة تفصل اكراد شرق سورية في عين العرب والحسكة عن اكراد غربها في عفرين، وتمنح التركي ورقة ثابتة وقوية في سورية تحجز لها مقعدا في أي مفاوضات حول سورية وتمكنها تاليا من حجز حصة الاخوان المسلمين في السلطة السورية.

ان ما قامت به تركيا في جرابلس السورية يعتبر عدوانا موصوفا، وانتهاكا فظا للسيادة السورية وهي لا تستطيع مطلقا ان تبرره تحت عنوان مكافحة الإرهاب ففي جرابلس لم يكن قتال بين الجيش التركي والفصائل المسلحة التي جاء بها من جهة وارهابيي داعش من جهة ثانية بل كانت عملية تسلم وتسليم هادئة بين فصيل إرهابي انتجته اميركا واحتضنته تركيا وامدته بكل سبل الدعم، وبين فصائل إرهابية ترعاها اميركا وتحتضنها تركيا وتسميها معارضة معتدلة تسلم وتسليم جرى برعاية أميركية وتنفيذ واشراف تركي.

وقد يدعي اردغان أيضا ومن اجل تبرير عدوانه بانه احتل جرابلس ليسقط مشروع كردستان الغربية المهدد للأمن القومي التركي ولكن من قال لاردغان ان هذا المشروع قابل للحياة أصلا، او ان سورية ستسمح به، صحيح ان بعض الرؤوس الحامية في حزب العمال الكردستاني قادت من معها الى عملية انتحار مؤكدة، ولكن الصحيح أيضا ان سورية التي افشلت خطط عدوان أربع قبل المشروع الكردي الانفصالي قادرة حتما على اسقاط هذا المشروع.

ان تركيا لو كانت جادة في محاربة الإرهاب او كانت جادة في التصدي للمشروع الأميركي الكردي الفاشل أصلا الذي لا يملك شيئا معتبرا من مقومات النجاح، لو كانت صادقة في ذلك لكانت نسقت مع الحكومة السورية واعادت الاعتبار الى اتفاقية اضنه وأغلقت حدودها بوجه الإرهاب المتدفق الى سورية، وامتنعت عن القيام باي عمل لا يجيزه القانون الدولي حرصا على امن الجوار. لكنها لم تفعل لانها تريد ان تستأنف دورها في معسكر العدوان على سورية ولعب دور الأداة بيدها انتهاكا لأمن المنطقة وسيدة دولها مكذبة بذلك كل الظنون والأوهام القائلة باستدارة تركية او استفاقة تركية وهي بدل ان تتجه الى الشرق لبناء منظومة الامن الإقليمي الدفاعي تشبثت بالحلف الأطلسي وبسياسة العدوان على الغير. وكما الاكراد كانت تركيا أداة بيد اميركا استعملت لتمكن كيري من الجلوس مع لافروف في جنيف وبيده أوراق قوة يضغط بها وأيضا كما الاكراد استعملوا وخاب أملهم من اميركا فان تركيا لن تكون أفضل حالا وهي ستجد نفسها في رمال متحركة تغرقها وتذهب بأحلامها كما وعدها الرئيس الأسد بان تكون حلب مقبرة أحلام اردغان.

نقول ذلك لان تركيا ستواجه في احتلالها شعبا يرفضها ومستعد لمقاومتها، فضلا عن المواجهة الأساسية مع معسكر الدفاع عن سورية الذي يؤكد مضيه قدما في عملية الدفاع ودعم الحكومة السورية المتمسكة بثوابتها الأساسية: وحدة الأرض ووحدة الشعب، والسيادة الوطنية والقرار المستقل ورفض أي تدخل خارجي او فرض خارجي على الشعب السوري من أي جهة اتى، وان هذا المعسكر يملك من القدرات والإرادة والتصميم ما يمكنه من تحقيق أهدافه الدفاعية اليوم كما نجح في تحقيق ذلك خلال الأشهر ال 66 الماضية. وأخيرا لا نستبعد ان تنقلب عليها بعض المجموعات الإرهابية التي فقدت بالاحتلال التركي مكاسبها المصلحية. وبالنتيجة سيجد التركي نفسه قد وقع كما وقع سواه ضحية الغرور والثقة بأميركا التي تتلاعب بدماء البشر خدمة لمصالحها.