في خضمّ واحدة من أسوأ الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها لبنان، ننتظر بارقة أمل بتحرّك من هنا أو خطة من هناك، ونتذكر أنّ لدينا في لبنان فعلياً جسماً اقتصادياً يُعرف بالهيئات الاقتصادية التي يجب أن تمتلك نسبة عالية من التأثير لتغيير مسار الأمور.

في انتظار تحرّك كبير يفرض على أهل السياسة إعادة النظر في كلّ السياسات الخاطئة التي تعرقل انطلاق النمو الاقتصادي، نُفاجأ بدعوة فولكلورية لوقفة كليشه للمطالبة بإنتخاب رئيس جمهورية، وهذا يذكرنا بالإضراب الشهير الذي دعت اليه الهيئات الاقتصادية عام 2013 مطالبة برحيل الحكومة وواعدة بالمنّ والسلوى إذا رحلت.

وبغضّ النظر عن مضمون هذه المطالب والتي لا تعالج صميم المشكلات الاقتصادية في البلاد، بل تنطلق من ارتجالية سياسية واضحة، فإنّ الدعوة الى الاضراب من هيئة اقتصادية تبشّر بالإنتاج هي بحدّ ذاتها جلد للذات وتعميم لأفكار سلبية في الأساس ترفضها الهيئات الاقتصادية.

لا أتكلم عن الهيئات الاقتصادية من باب الانتقاد، بل أتكلم من باب الحريص على طفله، على قيم أساسية رافقتها بعناد وإصرار لإيصالها الى أعلى المراتب، الحريص على مسيرة حياة كان شعارها الأساس الإنتاج والشفافية والابداع والتطور وخلق الفرص وتعميم النجاح، الحريص على القَسَم المقدس بإبعاد يد السياسيين عن الاقتصاد، وعلى منح الهيئات الاقتصادية الحرية المطلقة بعيداً من الضغوط لتكون هي، نعم هي، مَن ترسم السياسات الاقتصادية ومَن ترفع لبنان الى مصاف الدول المتقدمة اقتصادياً.

فأين نحن اليوم من هذا الحلم، هل تمّ اختصار الهيئات في دعوة «ولدنة» للاعتراض بطريقة كليشه على عدم انتخاب الرئيس، وهل فعلاً أحد في الهيئات مقتنع بأنّ انتخاب الرئيس سيُغيّر كلّ الشوائب التي ناضلنا من أجلها منذ عشرات السنين وحتى اليوم، وهل وفت الهيئات بوعدها للناس بأنّ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ستكون مفتاح الفرج للاقتصاد اللبناني؟

لم تعد الهيئات الاقتصادية تملك ترف السكوت وترف التغاضي وترف لعب دور الادوات الصامتة التي يتمّ تحريكها عند الطلب لخدمة أهداف سياسية معيّنة. لم تعد الهيئات الاقتصادية تستطيع أن تُقنع العالم بأنّ كلّ مشكلاتنا تتوقف عند مطلب آني. لم تعد تستطيع أن تُقنع الشعب بشفافيتها وهي صامتة كلّ يوم عن أفظع الممارسات التي تُرتكب بحق الشفافية في لبنان.

لن تكون الهيئات الاقتصادية مرجعاً لجميع المواطنين بلا استثناء اذا لم تعارض مثلاً التمديد للمجلس النيابي وخرق الدستور في موازاة انتخاب رئيس الجمهورية.

لن تستعيد الهيئات الاقتصادية مصداقيتها ما لم تعطِ موقفاً واضحاً من أزمة النفايات وتطرح خطة مستدامة، بدلاً من الوقوف في موقع المتفرّج، في الوقت الذي تملك فيه هذه الهيئات خزاناً هائلاً من الصناعيين ورجال الاعمال والخبراء الذين يستطيعون الخروج بخطط مهمة.

فكيف للهيئات اليوم أن تصمت في مواجهة فضائح اساسية في القرن الواحد والعشرين؟ كيف لا تكون رأس الحربة الاساسية في مواجهة الفاسدين والمفسدين في هذا الوطن وتكون لهم في المرصاد عند كلّ فرصة سانحة، خصوصاً أنّ هذا الفساد اليوم لم يعد خافياً على احد بل مكشوفاً ويتمّ التباهي به؟

أين موقفها من مناقصات اليوم؟ من المرفأ ووضعه القانوني والممارسات التي تتمّ فيه والرسوم وفق نوع البضاعة والتي لا تدخل الى خزينة الدولة، من إشراك القطاع الخاص في المرافق التي لا تزال تُدار من الدولة بشكل يُعتبر الأسوأ في العالم؟

أين موقفها من إجراءات التصدير والاستيراد في بلد يُعتبر شبه معزول عن العالم؟ موقفها من التشريعات الداعمة لمحاربة الفساد ولعلّ أبرزها قانون الحق في الوصول الى المعلومات، وهذا القانون يعطي الهيئات القدرة الرقابية اللازمة لمتابعة العمل الحكومي؟

أين الهيئات الاقتصادية من الاتفاقات التجارية المعقودة على حساب لبنان وبعض الدول العربية التي فرضت جمارك على المستوردات من لبنان مخالفة للاتفاقات التجارية؟

أين الهيئات من الرشاوى اليومية؟ من الفوضى في الشؤون العقارية، موقفها من قانون الايجارات، من السياسة الضريبية؟، من ومن ومن...؟

أين تختفي الهيئات اليوم من صرخة الناس ووجعهم الاقتصادي؟ أين الحلول التي ينتظرها المواطن؟ فالمواطن يحتاج الى حلول ولا يحتاج الى الندب والبكاء والتهويل بالأسوأ. يريد أن يصبو الى قادة وصانعي مواقف وخطط، فلا يحتاج الى شريك في البكاء في هذه المرحلة الحرجة.

انتظرنا أن تفاجئنا الهيئات بكلّ ذلك، فها هو التحرّك العظيم يأتي على شاكلة «وقفة تضامنية لمدة 15 دقيقة في 29 أيلول وتلاوة بيان مقتضب ومعبّر بإسم الهيئات». إحذروا أيها السياسيون يوم 29 أيلول، فالغضب الساطع آت.

على الهيئات اليوم الانتفاض على نفسها وإجراء تغيير شامل وأن تكون على مسافة واحدة من الجميع، لتعود أداة ضغط اساسية في رسم الحلول والسياسات. على الهيئات رفض زجّها في أيّ تجاذب سياسي بل أن تكون الحكم بين الجميع. هذه هي الهيئات الاقتصادية التي نعرفها، وعليها استعادة دورها لمصلحة هذا الوطن الذي شبع بيانات مقتضبة ومعبّرة وكليشهات.