شيء يعيدك بالذاكرة إلى سنوات الحرب الأهلية في لبنان. تلك الفترة المجنونة التي راج فيها الفكر الظلامي الرافض لكل شيء آخر. ليس لكل فكر آخر، بل لكل كلام آخر، لكل كتاب آخر، لكل لباس آخر، لكل شراب آخر، لكل لون آخر.

هو المناخ الذي يمسك فيه العدم بكل شيء حي. هو المناخ الذي يسقط فيه العقل نهائياً. لا شيء يمسك بالإنسان سوى غريزته التي تحوّله حيواناً ناطقاً. الحيوان التائه في برية واسعة، حيث لا قواعد ولا حرمات ولا منطق ولا عقل.

هكذا هي الحال مع الذي فكّر، وحرّض وجنّد، ونفّذ عملية الإعدام وسط عمان أمس. عملية الإعدام الوحشية، التي تشبه عمليات القتل التي يرتكبها الفكر نفسه الذي يحمله المحرّض والقاتل، والتي تجوب عالمنا اليوم، وحيث يحوّل المجرم نفسه الى بطل. بطل يزهو بنفسه. أو ينتظر الثناء من أهله ومن رفاقه ومن شركائه في الفكر والمشروع.

النظام يتوهم أنه سيبرع في اللعب على تناقضات المجتمع حتى ينأى بنفسه عنها

ولكن، من ذا الذي يتحمل المسؤولية؟

لا أحد قبل النظام الحاكم في الأردن: من الملك وأعيانه، إلى حكومته ووزرائه، وأجهزته الأمنية على تنوعها، ورجالات السياسة والدين على اختلافهم. هؤلاء كلّهم تورطوا، عن عمدٍ، في التمهيد، وفي تسهيل عملية اغتيال ناهض. مرة عندما قبلوا اتهامه بالكفر، وسمحوا للمجانين بهدر دمه، ومرة ثانية، عندما تركوه وحيداً حتى وصل القتلة إليه.

إنه النظام الأردني الذي يشهّر بكاتبٍ علناً باعتباره مهرطقاً، ثم يجعله (عن قصدٍ) هدفاً للاغتيال. وهو النظام الذي يعرف الطبيعة العشائرية، ولدى أجهزته خبرة في طريقة الفصل بين المتخاصمين وحمايتهم لمنع القتل وأعمال الثأر، لكنه لم يحرك ساكناً في قضية ناهض، وهو النظام الذي يعرف تمام المعرفة حجم التهديدات التي تلقّاها ناهض، من أشخاص معروفين، بعضهم وضع جائزة لمن يأتي برأسه.

هو النظام الذي سمح للتكفيرية بالتجذّر في الأردن ومحيطه، تبعاً لسياسات الملك وتحالفاته. وهو النظام الغبي، الذي يترك التيارات التكفيرية تعمل تحت رعايته وبمشاركة كل أجهزة الاستخبارات في العالم. التيارات نفسها التي قتلت ناهض اليوم هي التي سترث هذا البلد غداً. ولن يفلح الملك التابع إلا بترك بلاده، في نهاية الأمر، إمارة داعشية.

هو النظام الذي يتوهم، مرة جديدة، أنه سيبرع في اللعب على تناقضات المجتمع حتى ينأى بنفسه عنها، ويبقي الجميع تحت «الخيمة الهاشمية»، ويستمر في تبرير كل السياسات الخارجية والداخلية، بما فيها التحالف مع إسرائيل، وجعل الأردن محطة لكل التآمر الذي يدمّر سوريا وفلسطين.

إنه النظام الذي يتحمّل مسؤولية اغتيال ناهض.

أما أولئك، أبناء العدم، فهم مثل أسلافهم، يعتقدون أن القتل بكل الأشكال هو الوسيلة الأجدى لترهيب الناس، وجعل الصمت يسود. ويجعل من الناس عبيداً في ممالك القهر التي خرجوا منها، ويعدون الناس بما هو أبشع منها.

هؤلاء هم أصحاب الثقافة التكفيرية، هم ليسوا شرفاء ولا وطنيين، هؤلاء الذين يستفزّهم رسم على سخافته، ويدفعهم الى القتل، لكن لم يستفزهم يوماً العلم الإسرائيلي الذي يرتفع في قلب عمّان، ولم يحركوا في وجهه ساكناً.

لهؤلاء نقول، سيظل فينا من يقاوم الوحش الذي يرتسم على وجوهكم، ومن ينجو سوف يأكله الوحش الذي ينمو ويكبر في داخله، ولن يبقى لكم أثر، ولو بعد حين!