كان الليل انتصف بين الاثنين والثلاثاء الماضي، ولم تنم منطقة باب التبانة في طرابلس. الكل كان يتحضر هذه المرة لا لجولة قتال جديدة اعتادت عليها التبانة مع جبل محسن، ولا اعتراضاً على حكم قضائي صدر بحق شادي المولوي أو أي متورط بأعمال ارهابية، بل كان أبناء هذه المنطقة المحرومة يحسبون الساعات استعداداً لاستقبال "ضيف عزيز" هو المدير العام للامن العام اللواء ​عباس ابراهيم​. رُفعت اللافتات والصور لأول مرة لشخصية من خارج طرابلس.

لا غاية لهذا اللواء في زيارة هذه المنطقة سوى تعزيز ربط أهلها بالدولة والشرعية. الأهالي يدركون ذلك. تمنوا لو أن السياسيين حذوا حذوه، ففتحوا أبواب مكاتبهم لشباب دفعتهم طيبتهم لان يكونوا وقوداً في معارك سياسية وحسابات ضيقة.

دفع أهالي التبانة مراراً الثمن خراباً في المنازل، وسجناً لشبابهم، ودماً سال في غير مكانه، وقلقاً دائماً وتوتراً مع جيرانهم، وتُركوا لقدرهم في كل مرة. لم يجد أهالي تلك المنطقة حضناً دافئاً يطمئنهم. كان السياسيون بعيدين عنهم إلاّ في وقت الانتخابات او لإرسال الرسائل السياسية بالنار والبارود.

من يرصد فرحتهم وحُسْن استقبالهم لمدير عام الامن العام يُدرك انهم متعطشون لضم شرعية الدولة اليهم. هم بحاجة لحنانها ورعايتها واهتمامها. هكذا بدوا يردّون الجميل للواء ابراهيم الذي خطا مشياً على الأقدام بين أهالي التبانة في منطقة كانت جبهة ميدانية ساخنة، وبين شباب كانوا "زعماء محاور القتال"، وفي بيئة اتُّهمت برعاية المسلحين. نحروا له الخراف والجِمال. رمته الأمهات والسيدات بالورود. تدافعوا للوصول اليه، لشكره على الزيارة، للتعبير عن محبتهم الخالصة له، للشكوى وطلب الانصاف والرعاية.

مشهد معبر في تسابق الأهالي للترحيب "بسعادة اللواء بين أهله"، فحمل هذا المشهد اكثر من رسالة: أهمية احتضان الشرعية للمناطق المحرومة وعدم تركها لقدرها. نُبل أهالي تلك الأحياء الفقيرة ووطنيتهم التي دفعتهم لتنظيم استقبال احتفالي لمدير عام لا ينتمي وفق الحسابات ال​لبنان​ية لبيئتهم المذهبية، ما يدل على ان اللبنانيين لا يتوقفون عند تلك الاعتبارات عندما يلمسون ان المسؤول لا يمارس مذهبية ولا طائفية ولا مناطقية في خطابه وأدائه. هذا ما يحتاجه لبنان الآن.

الأهم ان الحملة التي نُظمت يوماً ضد الامن العام عند توقيف المولوي سقطت امام الممارسات الوطنية للواء عباس ابراهيم. فبدا هذا الجهاز هو الأقرب للأهالي والأكثر انصافاً وتفهماً لهم والأصدق في التعامل معهم، في حين كانت اجهزة و شخصيات أمنية وسياسية تستغل طيبة وعوز أهالي التبانة لتحقيق مصالحها الضيقة.

كانت زيارة ابراهيم درساً يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار على مساحة لبنان، للسياسيين والأمنيين المعنيين اولاً بتلك المناطق المُستبعدة عن حضن الدولة، ولأهالي تلك المناطق التوّاقين للاندماج الكُلِّي في إطار الشرعية.

هذه التجربة يُمكن ان تُعمم في مساحات أخرى. عندها لا يشعر اي لبناني بالغربة في وطنه.

تلك التجربة تثبت اننا قادرون على محاربة اي خطاب مذهبي ومنع استثماره في حال وجوده، بل والقدرة على القضاء عليه في مهده.

تثبت أيضاً ان القُرب من المواطن ضروري لسد حاجاته العاطفية في علاقته مع الدولة، وعبر الاستماع مباشرة لهمومه.

هذا الشعب طيب، يحتاج لمسؤولين طيبين وطنيين لا يصطنعون حواجز امام المواطن. محطة باب التبانة الثلاثاء تؤكد ذلك. هي اهم درس وطني تطبيقي لا نظري.