تتسع الأزمة العراقية، المتمادية أصلاً،على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل الفساد الذي ضرب جذوره عميقاً، وهو الفساد الذي أرسى ركائزه حاكم العراق الأول في ظل الاحتلال الأميركي؛ بول بريمر، الذي جمع ثروة هائلة من العراق، واعترف بذلك بلا خجل ولا وجل.

العراق يعيش اليوم أزمة سياسية متعددة الجوانب، في ظل حرب ضروس مع الإرهاب، لم تتوقف بدورها منذ أن بذر الأميركيون، مع بداية خطوات الاحتلال، بذور فتنة أينعت أكثر من مرة، وانتشرت، حتى باتت المطالبة باجتثاث الفتنة تهمة مذهبية أكثر ما تتجلى صورها في مكافحة الفساد.

لقد شهد العراق منذ أيام سحب الثقة من وزير المالية هوشيار زيباري، بعد جلسات استماع برلمانية، على خلفية التورط في الفساد، لم يتمكن مثل وزير الدفاع السابق خالد العبيدي من إقناع البرلمان بعدم التورُّط في نهب المال العام، رغم الضغوط الأميركية المتعددة الجوانب، والبنك الدولي؛ بتجاوز المسألة تحت ذرائع مختلفة، ما جعل الغالبية البرلمانية أمام تحدٍّ غير مسبوق لمواجهة السياسية الأميركية التوريطية على مستوى عدم المحاسبة من جهة، وإظهار البرلمان أنه فاسد بكليّته من جهة ثانية عشية الانتخابات النيابية، وبالتالي فك ارتباط أي ثقة شعبية بالنواب.

إقالة زيباري كانت مدوّية، لاسيما أنه رافق جميع الحكومات العراقية أثناء الاحتلال الأميركي وبعد دحره، وكذلك في ظل عودة المحتل تسللاً بلبوس جديد عنوانه "المساهمة في مكافحة الإرهاب"، والذي هو أحد نتاجه المباشر، ويكاد أن تتخذ الإقالة منحى خطيراً، على مستويين يجري العمل عليهما أميركياً، الأول مذهبي، والثاني إثني.

فعلى المستوى المذهبي، يساعد زيباري نفسه في النفخ فيه، بتحميله "كتلة القانون" بقيادة نوري المالكي مسؤولية إقالته، باعتبارها كتلة شيعية، رغم أن المكوّن السُّني بغالبيته صوّت إلى جانب الإقالة، كما في إقالة وزير الدفاع، لا بل إن هناك أصواتاً أزوَدَ في إقالة الأخير.

أما على المستوى الإثني، فإن ترويج إبعاد الكرد عن السلطة، خطير جداً، علماً أن البديل المطروح عملياً هو كردي، لكن ليس أداة لحاكم الإقليم الكردستاني مسعود البرازني، الذي يسعى لانفصال الإقليم بنصيحة أميركية - "إسرائيلية"، ضمن مخطط تفتيت العراق إلى أقاليم متناحرة، مع العلم أن زيباري تربطه علاقة نسب مع البرزاني، الأمر الذي دفعه لاعتبار أن إقالة زيباري ضربة قاسية لمروّج الانفصال الذي يحكم الإقليم بالسطوة وخارج القانون، لرفضه - بدعم أميركي - إجراء انتخابات، رغم مرور ما يقارب السنوان الثلاث على انتهاء فترة ولايته.

لا شك أن الأزمة السياسية في العراق ستشهد منزلقات جديدة مع الإصرار على محاربة الإرهاب مقابل المحاباة الأميركية للإرهاب، عبر بعض الأدوات السياسية المحلية، فيما القوات المسلحة والحشد الشعبي ومقاتلو العشائر يدفعون بسرعة للتخلُّص من الإرهاب، وهو ما يقومون به منذ تحرير الفلوجة على مراحل، بحيث جاء تحرير الشرقاط محطة محورية، رغم محاولات الولايات المتحدة تأخير العملية لأشهر، فيما يصرّ العراقيون على أنهم ليسوا بحاجة إلى مساعدة أميركية في تحرير عقر "داعش" في الموصل.

بعد رسم علامات استفهام كبيرة على الدور الأميركي في تقديم الدور العسكري الكردي على ما عداه، وهو ما ترفضه الحكومة المركزية، سيما أن الأميركيين يقدّمون أيضاً الدعم العسكري للبيشمركة مباشرة دون التنسيق مع بغداد، يظهر إعلان واشنطن بوقاحة عن الحاجة إلى تقسيم محافظة الموصل إلى ثلاث مناطق مذهبية، بحجة أن يحكم المسيحيون أنفسهم.

لم يعد من شك لدى العراقيين بغالبيتهم العظمى في أن الأميركيين يعملون بقوة حرابهم على حماية الفاسدين الذين أوجدوهم في السلطة، وكذلك حماية الإرهابيين الذين صنعوهم من أجل استمرار الفتنة، ولذلك فهم يزيدون كل مرة عديد قواتهم في العراق بعمليات أشبه بالتسلل، ودون النقاش مع الحكومة العراقية التي باتت شبه مترنحة.