سقط الجدار الحريريّ الشاهق ولم يبق للجمهورية الثانية أو ترويكا بري ــ السنيورة ــ جنبلاط وملحقاتهم غير متراس وحيد يحتمون خلفه، علّ وعسى ينجحون في إيقاف عجلة التاريخ

حين سحقت دبابات الطائف العماد ميشال عون أرسي نظام سياسيّ ــ مصرفيّ ــ أمنيّ ــ إداريّ يتشارك ثلاثة أفرقاء في إدارته تحت المظلة السورية هم: الرئيس نبيه بري، النائب ​وليد جنبلاط​، والرئيس رفيق الحريري ممثلاً بنفسه والرئيس فؤاد السنيورة.

أحاط هؤلاء أنفسهم بشبكة واسعة من رجال الأعمال والضباط والقضاة والإعلاميين والأحزاب اليمينية واليسارية والقومية والعروبية ورجال الدين والسياسيين التقليديين. وفي كل مفصل، كان الرئيس بري أبرز من يحمي هذا النظام. فحين اهتز عام 2005 بادر بري إلى القيام بكل ما يلزم لضمان استمراريته، سواء عبر الدفع باتجاه استقالة الرئيس عمر كرامي وتعطيل محاولته تشكيل حكومة أخرى أو عبر هندسة الاتفاق الرباعي. وما كادت الأوضاع الإقليمية تستقر قليلاً حتى نسج رئيس المجلس بساطاً أطلق عليه اسم «سين سين» يجلس النظام عليه ويمد قدميه. وطوال عشر سنوات لم يكن العونيون ينفذون من طوق السنيورة لاختراق النظام في ملف ما، حتىى يسارع بري إلى عرقلتهم بأدوات مختلفة. وما كاد مئات الناشطين المدنيين السياسيين يقتربون من النظام في تظاهراتهم حتى انقضّ أنصار بري عليهم بالحجارة والعصي للذود عن النظام. والنظام باختصار ليس إلا شركة خاصة لم تكفّ عن شفط الرمال والواجهات البحرية والجبال ووسط المدن وكل ما في الحسابات المصرفية وجيوب المواطنين، علماً بأن هذه الشركة الحاكمة تحتكر إدارة كل القطاعات المربحة في البلد، من الباطون إلى غاز المطابخ مروراً بالمطاعم. وفي وقت كانت فيه أكثرية المواطنين تزداد فقراً كان النظام ولا يزال يزداد ثراءً، علماً بأن الصناديق المختلفة وتركيبة مجلس الإنماء والإعمار تعكس بوضوح تركيبة النظام، وتبين موازناتها السنوية حجم المبالغ الخيالية التي تتوزع على بضعة جيوب تعرف كيف تشتري بمبالغ يسيرة ولاء كثيرين. ولا بدّ من القول إن النظام الذي ينجح الرئيس بري في حمايته دائماً هو هيكل إداري ــ عسكري ــ قضائي ــ أمني ــ إعلامي ــ اقتصادي ــ تشريعي ــ تنفيذي ــ إنمائي لا يمكن تحريك واحد من حجارته من دون موافقة مفاتيحه الثلاثة، سواء كانوا داخل الحكومة أو خارجها، كما تبين إبان العهد الميقاتيّ.

انتخاب النائب ​سليمان فرنجية​ رئيساً يحرك الركود السياسيّ قليلاً، لكنه لا يهدد النظام. فهو من «عظام رقبته». أما انتخاب العماد عون رئيساً فيمثل تهديداً غير مسبوق له. وما يقوله النائب إبراهيم كنعان مثلاً واضح في اعتباره انتخاب عون ليس إلا الخطوة الأولى ــ لا الأخيرة ــ في مسيرة إعادة التوازن إلى السلطة. وهو يرى أن إعادة التوازن هي أقل المطلوب، فيما «الطموح هو تحقيق ما ينتظره الرأي العام منا من تغيير وإصلاح». فالصفقة الرئاسية يمكن أن تشمل اتفاقاً نفطياً وقانون انتخابات نيابية وتوزيع الحقائب الرئيسية وعدة تفاصيل أخرى، لكن لا أحد يمكن أن يقنع نفسه بأن عون سيرتضي بعد انتخابه رئيساً أن تبقى حصته في الإدارة كما هي اليوم: محافظ بعلبك ــ الهرمل ومدير عام مؤسسة الإسكان. من فبركوا الملفات للمديرين العامين الذين سمّاهم الرئيس إميل لحود لإزاحتهم بذرائع مختلفة، لا يحتملون إقلاق راحتهم مجدداً، علماً بأن العونيين حاولوا خلال السنوات العشر الماضية خلخلة الشبكة المتماسكة لكنهم عجزوا عن كسر حلقة واحدة، فالحصول على حقيبة وزارية كان ممكناً، أما إقالة مدير عام واحد أو محاسبة مدير مصلحة أو إعادة بضعة موظفين لا حاجة لهم إلى منازلهم فكان أمراً ممنوعاً، كونه يعتبر مسّاً بالنظام وشبكته. أما في حال انتخاب العماد عون رئيساً فسيختلف كل شيء. والأمر هنا لا يتعلق بالمناصفة والمثالثة وغيرهما من الشعارات الكبيرة، بل بمن يعيّن، وكيف، المحافظين والقائمقامين والمديرين العامين ومجالس التفتيش والقضاة والضباط وحاكم مصرف لبنان...

خوف بري والسنيورة وجنبلاط لا يتعلق بقانون الانتخاب في ظل معرفتهم أن نتائج الانتخابات تتحدد في لبنان بموافقة الجميع قبل إجراء الانتخابات، أو برئاسة المجلس النيابي التي يعلم بري أنها تحصيله الحاصل، أو الحصص الوزارية التي يعلم بري وجنبلاط أنها ثابتة لا تتزعزع. خوفهما يتعلق بتماسك النظام وشبكة الأمان المحيطة به. وخلف المتراس الأخير، يحتشد وراء الرئيس نبيه بري عدد لا يستهان به ممن يخشون على مصالحهم وأرزاقهم. من النواب الحاليين والسابقين الذين يتخيلون ما سيكون عليه الأمر في حال إجراء الانتخابات النيابية بعد أشهر قليلة من انتخابه رئيساً، فيما الزخم الرئاسي – الشعبيّ في أوجه، إلى الضباط والقضاة والمديرين العامين وحتى رؤساء المجالس البلدية الذين تعاملوا مع عون دائماً باعتبارهم في الموقع الأقوى لمجرد مشاركتهم في ديوانية المختارة أو كزدورة عين التينة. ولا شك بالتالي في أن هناك من سيستشرسون أكثر فأكثر في الأيام القليلة المقبلة، وسيستخدمون كل أسلحتهم للدفاع عمّا كسبوه بعيد إزاحة عون عسكرياً في 13 تشرين الأول 1990.

ما سبق لا يفترض أن يعطي براءة ذمة من أي نوع كان لرئيس تيار المستقبل ​سعد الحريري​. فالقول إن السنيورة ورث شراكة رفيق الحريري وجنبلاط وبري في إدارة النظام ــ الشركة لا يعني أبداً أن الحريري ملاك. فالحريري فهم منذ أكثر من عامين التركيبة الحقيقية، وبدأ مزاحمة السنيورة بهدوء للإمساك ببعض المفاصل الأساسية، لكن نفوذه في الإدارة لا يزال سخيفاً مقارنة بالسنيورة الذي فصّل بنفسه الإدارة اللبنانية بعد الطائف، ويعلم مَن عيّن وكيف ولماذا، وهو إداري ذكيّ وناجح، فيما تجارب الحريري في الإدارة غاية في السوء. وعليه، في حال كان الحريري صادقاً في نيته تبنّي ترشيح عون ولا يناور كما يرجّح كثيرون أو يستفز السعوديين لإعطائه بعض مطالبه، يمكن زعزعة النظام الحالي عبر انتخاب عون رئيساً أن تعطي الحريري فرصة لتعزيز نفوذه قليلاً، من دون أن يعني ذلك أن أزلام الحريري في الإدارة سيكونون أفضل أو أنظف من أزلام السنيورة.

أخيراً، يبالغ العونيون في احتفاليتهم غير ملتفتين إلى خطورة انتخاب العماد عون وفق صفقة سياسية تحول دون تحقيق ما وعد بتحقيقه، ولن يعود هناك بعد انتخابه رئيساً أيّ ذرائع يمكن تقديمها لعدم تحقيقها. لكن الكثير من المعارضين يبالغون كثيراً على نحو سيّئ بمعارضتهم. فوضع الاعتبارات الشخصية في المقدمة، وتفكير كل فرد بمكاسبه الشخصية وخسائره، يحولان دون تقدير كثيرين لأهمية الفرصة المتمثلة في انتخاب عون رئيساً. والأمر هنا لا يتعلق بانتعاش إيمان جمهور لبناني كبير بالبلد فقط، ولا باستثنائية انتخاب رئيس بموجب اتفاق لبناني ــ لبنانيّ من دون فرض من الخارج، بل بقدرة عون وحده على ــ محاولة ــ زعزعة النظام السابق ذكره. فثمة مرشح رئاسيّ قادر على الركض في حقل ألغام، وهناك مرشح شاب ووسيم، وهناك مرشح يرضي هذا وذاك. لكنّ ثمة مرشحاً واحداً ما زال يوحي لكثيرين بقدرته وحده على هزّ مسمار النظام. ولا شك في أن أحد الدوافع الرئيسية للتمسك بترشيح عون والإصرار عليه هو رؤية من يرفضون انتخابه رئيساً. حين يعارض بري وجنبلاط والسنيورة انتخاب عون رئيساً، فهذا يعني شيئاً وحيداً: يجب انتخاب عون رئيساً.