خلال شهور من الاستعصاء الرئاسي ساد اعتقاد يربط الخروج من الفراغ الرئاسي بقرار يتخذه الرئيس سعد الحريري بارتضاء الشراكة في إيصال العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، بعدما ساد لشهور سابقة اعتقاد بأنّ اقتراب الحريري نحو مرشح من قادة الثامن من آذار يكفي لتخطي التعقيدات المحيطة بالاستحقاق الرئاسي، لدرجة لم يكن أحد ليتخيّل أنّ تبني الحريري لترشيح النائب سليمان فرنجية يمكن أن يحدث، ولا لتخيّل ما جرى بعد حدوثه من بقاء المراوحة في المكان. ويبدو الاستعصاء الرئاسي اليوم كدوامة عندما يجري سدّ ثغرة فيها من ناحية، تنفتح ثغرات مقابلة في نواحٍ، فالذين يكتسبهم ترشيح الحريري لفرنجية لا يكفي تأييدهم لتحقيق النصاب السياسي اللازم للخروج من الفراغ، والذين يستقطبهم ترشيحه لعون لا يكفي تأييدهم أيضاً لتحقيق هذا النصاب، فلكلّ خيار قوة جذب، لكن له قوة طرد موازية.

الفوارق بين ترشيح الحريري لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وترشيحه للنائب سليمان فرنجية، تشبه إلى حدّ بعيد الفوارق بين ترشيحه لفرنجية وتبنّيه لترشيح عون، فنقاط القوة في مكان تقابلها نقاط ضعف في مكان. فالحريري الذي رشّح جعجع هو غير الحريري الذي رشح فرنجية، والحريري الذي رشح عون غير الإثنين في ترشيح جعجع ضَمَن الحريري تماسك كتلته ووراءها قوى الرابع عشر من آذار كقوة متماسكة وراءه لإلغاء ترشيح عون ومقايضته بمرشح وسطي على طريقة العماد ميشال سليمان، ولما فشل لم يأت إلى التوافق بحثاً عن مخرج، ولا إلى سلة تفاهمات دعاه إليها مراراً رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وكرّرها الأمين العام لحزب الله منذ بداية الاستحقاق الرئاسي، وكان اسم العماد عون ضمنها في حساب السيد نصرالله، واسم توافقي في حساب الرئيس بري بلا ممانعة أن يكون عون، وتمنّى أن يكون فرنجية خلاصة توافقاتها، بل اختار الحريري القفز فوق التوافق بمبادرة غير مدروسة وغير ممهّد لها، بترشيح منفرد لفرنجية كأمر واقع، أربك الساحة المقابلة له، لكنه لم ينتج رئيساً كما يقول هو اليوم، ورغم نجاحه بجذب كتلة يتقدّمها الرئيس بري والنائب وليد جنبلاط لدعمه في الخيار، لم يكلّف نفسه عناء التشاور معهما قبل الإقدام على الذهاب منفرداً بخيار تبني ترشيح عون. ومثلما أثار بترشيح فرنجية حفيظة التيار الوطني الحر وأحرج حزب الله، رغم كسب التأييد اللاحق لمبادرته من قبل بري وجنبلاط، أثار بمبادرته الجديدة حفيظة بري المتحفظ على كلّ ثنائية، وكلّ قفزة في المجهول، وأحرج جنبلاط، وأصاب فرنجية بضربة قاسية غير مبرّرة وغير محسوبة وغير متوقعة.

الفارق بين حجم ما يلقاه الحريري من دعم داخلي وخارجي لمبادراته في كلّ مرة، يظهر الضعف المتمادي في حالته، بين ترشيح تفاوضي محسوب يلقى تأييداً خارجياً من حلفاء الحريري في السعودية والغرب بانتظار رياح التوافقات الإقليمية والدولية، ويلقى دعماً داخلياً من الحلفاء التقليديين للحريري بما يعطل فرص السير بالمرشح الذي يتبنّاه حزب الله، وصل الحريري أضعف خارجياً وداخلياً بترشيح فرنجية، رغم إبهار المبادرة التي أوحت مع بداياتها أنها اختراق في جدار الأزمة، وسرعان ما تكشفت عن الفشل، وبان الدعم المحدود الذي تركها على عاتق الحريري لكنه لا يحميها، كمثل الدعم الداخلي الذي يرحب بها، لكنه لا يملك فرص جلب ثنائي عون وحزب الله إليها ولا يقدر على تجاهلهما حتى لو توافر نصاب قانوني للانتخاب. لكن الحريري يصل إلى مبادرته الثالثة أضعف من المرتين السابقتين، فهو هذه المرة عارٍ من أيّ سند خارجي، ولا يملك داخلياً ما يضيفه لقوة حزب الله وعون، إلا عدداً لا يستطيع معرفته الآن من النواب الذين سيلتزمون بخياره بالتصويت لعون، مع خسارة القدرة على التأثير في خيارات بري وجنبلاط، وخسارة مدوية للعلاقة بفرنجية بعد خسارة سابقة مماثلة للعلاقة بجعجع، لن يستعيدها بتبنيه لخيار عون الرئاسي.

تنكشف صورة المشهد الرئاسي اللبناني عن وصول الحريري متأخراً عن الخيارات التي كان يمكن لها إحداث الاختراق المنشود، لو طرحت في توقيتها المناسب، فترشيح فرنجية كان ممكناً تحويله إلى خيار رئاسي حقيقي، لو جاء ثمرة تفاوض البحث عن توافق بعد جلسة أو اثنتين للانتخاب أظهرتا الاستعصاء، وخيار عون الرئاسي كان ناضجاً دائماً، لكن الحريري يمتهن القدرة على حرق الأوراق، وإضاعة الفرص، فيأتي بخيار فرنجية بنصف غطاء وبخيار عون بلا غطاء. وفي الحالين يفترض أنّ كلمته تكفي لتسير الأمور كما يرغب، ويكشف عن جهل عميق بقدرة المعادلات اللبنانية والوقت باستهلاك كلّ الحلول البراقة، والوعود الجميلة. ومثلما حاول وضع بري وفرنجية بوجه حزب الله وعون من قبل يحاول العكس اليوم، متجاهلاً أو جاهلاً بأنّ حزب الله الذي أصرّ على جمع جناحَي حركته التي يمثلها بري وعون في مقاربة ترشيح فرنجية، ولأنه عرف استحالة سير أحدهما بها تمنّع، سيقف عند موقف بري بالقوة ذاتها التي وقف فيها عند موقف عون.

الفارق هذه المرة أنّ عقدة بري ليست الاسم ولا المرشح كما كانت عقدة عون في ترشيح فرنجية، بل رفض الثنائية. والمعادلة الصعبة اليوم هي أنّ على الحريري أن يرتضي أنه لا يملك أكثر من تزكية الاسم وليس صنع الرئيس، وأنه ليس بالوضع الذي يستطيع فيه نيل أكثر من وعد صادق برئاسة الحكومة، لكن الباقي ليس له ولا يستطيع المفاوضة عليه مع عون وحده، وبنسبة كبيرة على المحيطين بالعماد عون أن ينتبهوا أيضاً إلى أنّ الوصول إلى الرئاسة ثمن يسدّده له الآخرون ويطلبون مقابله أثماناً ينتظرونها، فلا يملكون دفعه أن يرتضي قسمة ثنائية مع الحريري ويظنون القدرة على إحراج حزب الله بتسويقها. الرئاستان لعون والحريري، والتفاوض على كلّ ما تبقى من حق الآخرين وبالشراكة معهم، تلك معادلة تواضع التوافق الممكن لبنانياً بغياب التغطية الإقليمية والدولية، وذلك هو امتحان اللبننة الجدي. فالشراكة هنا هي شراكة في كيف تتشكل دولة جديدة يشعر الجميع فيها بالأمان، ولا يخشى من ثنائيات أو ثلاثيات، وهذا تحدّ تأسيسي وليس مجرد صفقة رئاسية. تأسيس يبدأ من قانون الانتخاب ويصل للمناصب الحساسة في الدولة، وليس المناصب الحكومية فقط، لتشكيل حالة سياسية أمنية إدارية مالية، قادرة على الصمود في زمن الانكشاف الإقليمي والدولي وغياب التسويات الكبرى.

الحريري الرابح الأكبر بتعويمه سياسياً بعد خسارته الغطاء السعودي وتشظي قوته المحلية، وتراجع قدرته على الصمود وتحمّل المزيد من الاستنزاف. وعليه إدراك أنّ الفشل هذه المرة لن يصيب أحداً بالأذى بمثل ما قد يصيبه، ولذلك عليه أن يتوقع مَن يطلب منه أن يسدّد ثمن السير بخيار العماد عون لرئاسة الجمهورية كضمان إلزامي لوصوله إلى رئاسة الحكومة، لا أن يتوقع مَن يسدّد له ثمن السير بهذا الخيار، والتيار الوطني الحر بسلوكه ما قبل بلوغ قصر بعبدا يقدّم للشركاء الذين يستحيل الوصول بدونهم صورة عن كيفية تقاسمه معهم الرأي والاحترام والشراكة، لا عن كيفية مغافلتهم في التفاهمات الثنائية أو النظر إليهم على طريقة الحريري بترشيحه لفرنجية أنهم مجرد دمى يحرّكها حزب الله كيفما يشاء، مكتفياً من حزب الله بما قدّمه بثباته وصموده حتى أينعت ثمرة الرئاسة للتيار ليحسن التصرف مع الشركاء بلغة يستقيم الوضع ويصل الاستحقاق إلى بر الأمان بها وحدها.