لَيْسَ لُبْنَان بَلَدًا نِهَائِيًّا لِأَيٍّ مِنْ أَبِنَائِهِ ولَا هُمْ متساوون، لَا يَأْبَهُ لِحَرِيَّةِ رَأْيِهِمْ ولَا هُمْ إِلَيْهِ منتمون، لَا يَفِقَهُ حُقوقَ الإنسان ولَا الْعَدَالَةُ فِي الْحُسْبَان، تَقِلُّ فِيهِ الْفَضَائِلُ وتَكْثُرُ الْأَدْيَان. لَا يَحْمِي حُدودَهُ ولَا يَعْرُفُهَا، لَا يَفصِل بَيْنَ سُلطاته المخفوقة ولَا الشَّعْبُ مَصْدَرَهَا، لَا يُكْرِمُ الْآبَاء وَالْأُمَّهَات ولَا يَكْفَلُ الْيَتِيم، لَا يُطْعِمُ الْجَائِع وَلَا يَشْفِي السَّقِيم، يَسْرِق، يَقْتُل، يَزْنِي، يَحْلِف بَاطِلًا بِاِسْمِ الرَّبِّ وَيَشْهَدُ مِرارًا أَلاَّ إلَه إلا الْمَال.

عَنْدَمَا تَضْرِب مُؤَشِّراتُ الإنْحِطَاط الْاِجْتِمَاعِيّ والرَّسْمِيّ مُعَدَّلَاتٍ ظَلَاَّمِيَّةٍ، يُصْبِحُ النُّوَاح حِرْفَة الْفاشِلِين والرَّثَاء مأثرة الْمُنْهَزِمِين ويَتَوَزَّعُ الْمُتَنَوِّرُونَ بَيْنَ أَلِيفِ سُلْطَةٍ ومُنْعَزِلٍ ندّاب، فَيَكْتَسِبُ لَاَعِقُو الْأَحْذِيَةَ مَكَانَةً مُبَالَغَةً ومَنَاعَة خَارقَةً ضدَّ أَمرَاض نَقْص الْكَرَامَة ويُصْبَحُ اِحْتِرَام الدَّسَاتِير رِوَايَات وأَسَاطير ويَضِيفُ جُبْران لوَيْلَات أُمَّته: ويْلٌ لِأُمَّةٍ دُسْتُورُهَا أَقَلُّ نُصُوصها هَيْبَة.

حَاضَرَ رَائِد الْقَانُون الدَّوْلِيّ، هيوغو غرَوْتيوس، قَبْلَ أَرْبَعَة قُرُون أَنَّ الدَّوْلَةَ هِي تَكَتُّل مِثَالِيّ لِرِجَالٍ أَحْرَار، مُتَّحِدِينَ لِلتَّنَعُّمِ بِحُقوقٍ وَمُكْتَسِبَاتٍ مُشْتَرَكَة. لَمْ يَحْصُل أَيٌّ مَنْ ذَلِكَ فِي اِنْطِلَاق الدَّوْلَة اللُّبْنَانِيَّة أوَائل الْقَرْن الْمَاضِي، فَرِجَالهَا كَانُوا مُسْتَعْمَرِينَ لَا أَحَراراً، عالقين لَا مُتَّحِدِين وغَابَتْ الشَّراكَةُ عَن الْحُقوق والْمُكْتَسِبَات لتُشَكِّلَ اِمْتِيَازاتً حَصِرِيَّةً لِمَاسِحِي الْجُوخِ الْفَرَنْسِيِّ مِنْ وُحُوش الثَّرْوَات الَّذِينَ سَمنُوا عَلَى مَآسِي الْمجَاعَةِ الْمَشْؤُومَة. أَتَخِمَتْ هَدِيَّةُ الْاِسْتِعْمَارِ العُظمى كبرياء النَّصَارَى فَثَمِلُوا واسْتَكْبَرُوا وكَمَنَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الدِّيمُوغرافيا لِفُرْصَةِ اِنْقِضَاضٍ مُثْلى وَصَلَتْ مَعَ مُنَظَّمَةِ التَّحْرِيرِ، فَاسْتَأْثَرُوا. اسْتَعَرَتِ حُروبُ الطَّوَائِف عَلَى رُكَامِ الْقَوَانِين ولَمْ يَنْعَمْ بِرَغْدِ الْعَيْشِ الْمُشْتَرِكِ غَيْرَ بلُوتُوقراطِيَّةٍ مُتَمَكِّنَةٍ فَوْقَ جُثث التَّخَلُّف وَالْجَهْل فكبَّلَت نَاسهَا بِالرُّعْبِ مِن شَبَحِ الْفَقْرِ الْمُفَبْرَكِ وأَنْيَاب الْآخَر المَجْهُول وطَوَّعَتْ الوَثِيقَةَ والدُّستُور عَاهِرَتَيْنِ وَضِيعَتَيْنِ لِلفَسَادِ وإجْلَال المال. نَظَّرَ جون لوك فِي الْقَرْن السَّابع عَشَر لِجَوْهَرِيَّةِ الْحُكْمِ مَع رِضَى الْمَحْكُوم، فَالنَّاس يُوَلِّدُونَ أحراراً سَوَاسِيَةً دُونَ قُيُودِ الطَّاعَةِ لِأَيِّ عَرْش. إسْتَنبَطت الْبلُوتُوقراطِيَّةُ الصَّاعِدَةُ فِي بِلَادِ الْحَرْف حروفاً مُشَعْوذَةً لِإِحيَاءِ عُرُوشِ الْعُهرِ السِّياسِيّ واسْتَدْرَجَتْ طَاعَةً عميَاءَ بِمُوجِبَاتٍ خَادِعَة. لَا يَدْهَمُ الْخَطَرُ الْوَهْمِيُّ طَوَائِفَ الْجَبَلِ إلّا لِاِزْدِيَادِ قَصرِ سَيِّده أجْنِحَةً فَارِهَةً وتَقَدُمِيَّةً مَادِّيةً، ويُهَلِّلُ الْمَنْهُوبُونَ مُجَدَّداً لدَيْمومَةِ انْحِنَائِهِم. لَمْ تُنْتِجْ مُعَارِكُ رَفْعِ حزَامِ الْبُؤْسِ إلّا اتِّسَاع قطرِهِ وتَعْمِيقِ الْهُوَّة الثرواتية بَيْنَ قَاطِنِيهِ وبَيْنَ حَاجِبِي الأَمَلِ عَنه، فَأَحْكَمُوا إقْفَالهُ لِاِسْتِمْرارِ وِفرةِ وطَوَاعِيَةِ الأضاحي فِيهِ نَحوَ نَهَم الْمَذَابِحِ النَّائِيَة. لَمْ تُعَكِّرْ رَشَاقَةُ التَّلَاعُبِ بِقَوَانِينِ الإرْثِ هَدِير مَعَارِك الْحُرِيَّةِ والسِّيَادَةِ والإستقلَالِ لتَخْطَف المَلَاَيِين مِن جُيُوب السَّائِرِينَ خَلْفَ نَعْش الشَّهِيدِ قَبْلَ انتِهَاء مَرَاسِم الجَنَازَة. عَجِزَتْ الشَّرَائِعُ عَن حِمَايَةِ بَيْرُوت من مُغْتَصِبِيهَا وَمُشَرِّدِيهَا وَعُرِضَ تَارِيخُهَا مَزادًا عَلَنيّاً بِخدعةِ التَّطْوِيرِ العَقَارِيّ، فَلَا حَوْلَ ولَا قُوَّة إلّا بِالمال.

أَعَادتْ حَرْبُ اِسْتِعَادَةِ حُقوقِ مَهْزُومِي الْحَرْب عَلَى مُحْتَكِرِيهَا بَرَكَةً مُفْرِطَةً وأَثْمَرَتْ خطَابَاتُهَا الصِّبْيَانِيَّةُ مَرْدُودًا هَائِلًا مِن رُعَاعٍ مُنْكَسِرٍ وصَفقَاتٍ واعِدَةٍ واكْتُسِبَتْ رَفَاهِيَاتُ الملوكِ بالمُصَاهَرَةِ والمُتَاجَرَةِ بِالهُوِيَّاتِ ومَسَابِحِ الصَّلَوَات. إنْقلَب التَّسَامُح الْمَسِيحِيّ لُهَاثًا عُنْصُرِيّاً، صُنِّفَ التَّوَاضُعُ عَوْرَةً فَاضِحَةً واِتَّخَذَتْ مَعَارِضُ الشّهدَاء أبعاداً اِحتِفاليةً ودِعائِيَّةً غَصَّتْ مِنصّاتُها الرَّسْمِيَّة بِقَاتِلِيهِمْ وتَسابَقَ مُدَّعُو الْقُوَّة والدَّهَاء لاسْتِمَالَةِ رِجَال الْأَعْمَالِ القَذِرَةِ عَلَى حسَابِ القَدَرِيِّينَ الَّذِينَ تَهَشَّمَتْ كراماتُهم وإِمْكَانَاتُهم سَلَفًا عَلَى مَدَاخِلِ الصُّرُوحِ البَاهِظَةِ لِكَنِيسَةِ الفُقرَاء.

اسْتَفَاضَ رُوسُّو فِي نَظَرِيَّة العَقد الإجتِمَاعِيّ كَخُطْوَةٍ حَتْمِيَّةٍ تَسْبِقُ قِيَامَ الدُّوَل. كَلَّفَ تَجَاهُلُ بديهيَّة سُطُورِهِ هَدْرَ قَرْنٍ كَامِلٍ أَمَضاهُ البَلَدُ يُقَلِّدُ قَتَلَةَ نِسَائِهِ نياشينَ الرُّجُولَةَ والنَّصَّابِينَ أَزْرَار الذَّكَاء ويَحْصِدُ الحِقدُ مِنْ عَمَائِمِهِ ويَسْتَخِفُّ مُشَرِّعُوهُ بِشَرَائِعِهِ ويَحْتَلُّهُ مُقَاوِمُو اِحْتِلَاَلِهِ وتَمْلَأُ أَكْيَاسُ الرَّمْلِ شوَارع الْحَرْبِ وأَكْيَاسُ النُّفَايَاتِ شوَارع السِّلْم وتَتَفَاوَضُ ميليشياتُ القَتلِ عَلَى جُثثِ البِيئَة ومَنَاجِم الثَّرْوَاتِ ويَشْغَلُ دافِنو الأبرياءَ وَالسُّمُومَ الكِيميَائِيَّةَ مَنَاصِبَ عُلْيَا وتُعلَنُ الحَرْبُ الشَّامِلَةُ مِن خَارِجِ عَسْكَرِهِ وتُقْتَلُ أَرزَتُهُ لِتُنْقِذْهَا أمْصالُ اليابان. فَلُبْنَان لَا يَعْبَدُ رَبَّيْنِ: المال والآخَر.