خذوا الصورة الرئاسية الجلية والنقية من ثلاثة أفواه: بري وجعجع والفرزلي، طالما أن صاحب الجولات والصولات معتكف وصائم. بالنسبة الى الأوّل (بري) انخفاضٌ في السقف، أما لدى الثاني (جعجع) فحديثٌ عن مرحلة رئاسية جديدة، فيما بدت مهمّة الثالث (الفرزلي) تكريس الكيمياء بين العماد و”الأستاذ".

كلُّ شيء في الأزمة الرئاسية بدأ يضيق إلا نَفَس الجنرال وأبناء الرابية. هناك تبدو الأحاديث المتنقلة ذهابًا وجيئًا كعملية تحويل أموال سريعة. لا مكان للمحسومات في أيّ دارٍ سياسية، ولكنّ فيها كلّها مسلّمةً بأن صفحة رئاسية جديدة فُتِحت منذ عاد “الرُشد” الى عقل الرئيس سعد الحريري. ذاك الرُشد ما هو سوى الواقع الجديد المفروض على الرجل سياسيًا واقتصاديًا والذي يفترض منه الاعتماد على نفسه واتخاذ قرار “فرديّ” كفيلٍ بعودته الى السُدّة الثالثة ومنها النفاذ الى إنعاش شعبيته في الشارع السنّي.

"سيغنّي موّال عون"

هي ساعاتٌ حملت أبرز ثلاث جولاتٍ للحريري الذي بات المقرّبون منه على قناعةٍ تامّة بأنّه “سيغنّي” موال عون الرئاسي، بعدما تولّى تلحينَ جزءٍ منه وترك باقي الأجزاء الى الرئيس نبيه بري. الأخير لم يعد قادرًا هو الآخر على الإكثار من “عناده” ومناوراته بعدما اكتفى بالتفاوض “العينيّ” المثمر على ما علمت “البلد”، لدرجة أن شروطَه التوزيرية والنفطية كانت كافية له لبدء خفض سقفه تجاه الرابية تدريجيًا كي لا يُفهَم بطريقةٍ “مش نضيفة”. ويبرز بصمتٍ في هذا المجال دورٌ لحزب الله بحيث تصرّ مصادر في 8 آذار لـ”صدى البلد” على أن تدخُّل حزب الله الناعم والهادئ بدت بصمتُه في بسمة برّي العريضة وبيان مكتبه الانفتاحي التخفيفي أمس بالتزامن مع زيارتَي الحريري الى معراب والرابية”. كلامٌ يتماهى مع ما أشار اليه الدكتور سمير جعجع بإصراره على “الحرتقة” على سيّد عين التينة من خلال “تلبيس” حزب الله دورًا ضاغطًا في هذا المجال. ومردُّ هذه اللطشة على ما علمت “البلد” الى ما وصل الى مسامع معراب وسواها من “مكاسب” سيحققها برّي في حال قبوله بخيار عون وهو ما أبلغه للحريري في لقائهما المسائي أمس الأول.

جعجع يبثّ التفاؤل

في الأمس سمع جعجع ما أراد أن يسمعه من الحريري. خرج ليبثّ مزيدًا من التفاؤل في نفوس القاعدة البرتقالية التي تناست لبرهاتٍ تحضيراتها اللوجستية للتظاهرة الكبرى وعلّقت لمساتها كما علّقت آمالها على تاريخ 13 تشرين أو 15 منه واللذين يمكن أن يحملا مفاجأة سارّة لها في حال أخذ بري على نفسه تقريب موعد الجلسة من 31 تشرين الأول الى منتصفه ركونًا الى حقيقة الاتفاق على اسم العماد. تلك الصورة “الوردية” يبدو جعجع نفسه حريصًا على عدم ارتقاء الرابية بها حدّ “التصديق الكلي” كي لا تكون لناسها خيبةٌ في المرصاد كما في المرات السابقة، وعليه بنى الرجل حديثه على مداميك ثابتة من أمل وتفاؤل، من دون أن يحسم خيار الحريري لصالح عون ومن دون أن “يؤطّر” الرحلة الجديدة التي سلكها القطار الرئاسي زمنيًا، مكتفيًا بالحديث عن “خلافٍ بدأ يضيق”. علمًا أن جعجع هو الوحيد الذي أخذ على نفسه التفوّه بكلامٍ رئاسيٍّ عقب لقائه الحريري لتبريد قلوب العونيين المنتظرين.

ثلاثُ رحلاتٍ شاقة

من معراب الى الرابية مسافة جغرافية تضيق هي الأخرى وسياسية متلاحمة بعد التفاهم المسيحي-المسيحي. وجها الرجلين اللذان عكستهما الكاميرات وشيا للحظاتٍ بأنهما يهنّئان بعضهما بعضًا بالرئاستين الأولى والثالثة. ليس بعد، فعلى ما علمت “البلد” أمام الحريري ثلاثُ رحلاتٍ شاقّة الى ثلاث عواصم قرار في غضون أسبوع واحد هي: موسكو، باريس والرياض. بالنسبة الى الأولى قد تبدو الأكثر جوهريّة لا سيّما مع تأزُّم العلاقة السعودية-الإيرانية وفرض الروس أنفسهم لاعبًا أساسيًا على الساحتين اللبنانية والشرق أوسطية. بالنسبة الى الثانية الزيارة ضرورةٌ قصوى لأنه كان لها دورٌ في ترشيح النائب سليمان فرنجية لا بل سجّل رئيسُها على نفسه اتصالاً بالمرشّح المتهاوية أوراقه سليمان فرنجية ليعلن دعمَ فرنسا المطلق لترشيحه. أما في الثالثة، فبركةٌ شكليّة بعدما سلّم الجميع بأن المملكة تركت الحريري وشأنه لتنشغل بهمومها الداخلية والجواريّة. ولكنّ الصورة الكفيلة بإبقاء السعودية شريكًا فاعلًا في صنع القرار في لبنان وسواه تفرض لقطة مصافحة بين الحريري والعاهل السعودي ليشي المشهدُ بأن البركة مُنِحت، علمًا أن كواليس الأمور تشي بخلاف ذلك، والاعتراض السعودي الضمني على عون لم يتلاشَ فعليًا، بيد أن ضيقَ الخيارات أمام الحريري وانسدادَ كلّ الآفاق في وجهه كما في وجه بلاده دفعاه الى تحريك الملفّ الرئاسي من زاويةٍ أخرى هذه المرّة.

حكايا الدُور...

ماذا بقي بعد؟ سؤالٌ بديهيٌ يفرض الصمت المُطبِق على معظم الدور التي قصدها الحريري. ففي بيت الوسط الجوُّ على حاله وبعض الامتعاض يُسجَّل من نوابٍ لا يبتلعون خيار عون ويحذّرون في دوائرهم الضيّقة من غضبٍ شعبي. في المختارة خيارٌ متأثرٌّ بما يقوله رجل عين التينة، ولهذه الغاية كانت زيارتان لا تفصل بينهما ساعات أولاهما بطلها النائب وليد جنبلاط ووزيره الشاب وائل أبو فاعور، وثانيتهما غداة الأولى بطلها أبو فاعور وحيدًا، أما فحوى كلتيهما فالآتي: فصّل نلبسْ، أو بمعنى أكثر تلطيفًا ووضوحًا: لا اعتراض لدينا على خيار عون لكن ننتظر رأيك. علمًا أن الرابية كانت سلّفت جنبلاط توقيعًا على ترقية اللواء حاتم ملّاك لفتح الباب أمام رئاسته للأركان. لم يطُلْ رأي بري، بيد أنه أراد أن تصل الى الرابية رسالةٌ واضحة سبق وألمح إليها في أكثر من لقاءٍ مغلق مفادُها أن أيّ طبخةٍ تُطهى من دونه هي طبخة بحص، وعليه لا بدّ من التماس رأيه أولًا، وزيارته ثانيًا. لم تنَم الرابية على مثل هذه الرسالة، فكان اتصالٌ مسائي على ما علمت “البلد” بين الرابية وعين التينة، وبعده صدر بيانُ مكتب الرئيس بري التوضيحي الذي ركّز على أن “الطروح التي قدمها بري ويضعها في تصرُّف الجميع تعكس تمسّكه بجدول أعمال الحوار الوطني، وهي لا تستهدف أيًا من المرشحين بعينه”. أما بالنسبة الى معراب فيبدو حكيمها أكثر المتصالحين مع أنفسهم، وهو ما يحاول حزب الله جاهدًا أن يعكسه على نفسه من خلال عدم تركه مناسبةً للتشديد خلالها على خيار عون. وحدها بنشعي تنطوي على كثير من قصص الخذلان بعد يقينها بأن حظوظ رجلها سواء انتُخِب عون أم لم يُنتخَب باتت شبه معدومة.

فرصةٌ أخيرة...

لا تعكس ابتسامة الحريري المسائية في الرابية تصالحًا ذاتيًا مع خياره أو قلْ ثقةً بما سيحصده من تلك الخطوة. ففي نفس الرجل خشية دفينة من أن يكون هو أكبر الخاسرين على مستويَين: طعنٌ سياسي يعيده الى حيثما أتى في حال لم يُجِد تأدية دور “رئيس الحكومة الصالح” لا سيما بالنسبة الى حزب الله وخياراته الخارجية؛ ومغامرةٌ بمزيد من القاعدة الشعبية الناقمة عليه أصلًا. لن يكون قرار الحريري سهلًا، بيد أنه يبدو الضوء الأوحد في نفقٍ مظلم دخله يومَ قرّر ترشيح فرنجية ومعاداة الحلفاء واستفزاز الخصوم. هي فرصتُه غير الأخيرة ربّما على خلاف فرصةٍ رئاسيةٍ أخيرة للعماد عون الضاحك في عبّه بحذر... بحذرٍ لأنّ المجلس الذي لا يعترف بشرعيته هو نفسه الذي قد ينتخبه رئيسًا قريبًا إلا إذا تبيّن بعد أسبوع أو اثنين أن ضجَر الحريري دفعه الى “التسلّي” بالملف الرئاسي، أو في أحسن الأحوال غضب كتلته وأبعد من ذلك “عناد” برّي... هو واقعٌ غير مقبول في الأوساط المسيحية لكنه أقرب الى الحقيقة: على برّي أن يعلنَها...