منذ أن بدأت الولايات المتحدة تتواجد وتشارك عسكرياً في العراق وسورية مع صعود داعش وانتشارها على مساحة جغرافية كبيرة في البلدين، وبعد أن قرّرت موسكو المشاركة الفعلية في العمليات العسكرية بجانب الجيش السوري بناء على طلب القيادة السورية… نجد أنّ التعاطي الروسي في مواجهة التنظيمات الإرهابية والعمل على تصفيتها والقضاء عليها، يختلفان في الشكل والأساس مع التعاطي الأميركي. فموسكو خلاف واشنطن لم تنخرط في مجموعة الدول، أكانت عربية أم أجنبية العاملة بكلّ قوة وعزم على الإطاحة بالنظام السوري ورئيسه، وتقديم كافة وسائل الدعم العسكري والمالي والاستخباري والإعلامي لمئات الفصائل المسلحة السورية المعتدلة منها – كما يُروّج نظرياً – أو إرهابية على مدار سنوات الحرب في سورية. بل آثرت القضاء على الإرهاب الذي بدأ يأخذ مجالاً وبعداً دولياً، يتجاوز حدود دول المنطقة ليضرب في أنحاء عديدة من دول العالم.

روسيا التي عانت لسنوات من ضربات الإرهاب، ولا زالت في دائرة الاستهداف، تدرك جيداً أهمية مواجهتها للإرهاب واجتثاثه من الجذور، دون أن تربط هذه المواجهة بالعمل على الإطاحة بالنظام السوري مثل ما قامت به دول إقليمية في المنطقة كالسعودية وقطر وتركيا. فروسيا واضحة في مواقفها. فهي ترى أنّ التغيير السياسي في سورية يقرّره الشعب السوري وحده، ولا تقرّره التنظيمات الإرهابية ومَن يدعمها، والتي تتدفق إلى سورية بعشرات الآلاف من أنحاء العالم للحرب فيها، ولإقامة الدولة الإسلامية، دولة داعش على أرضها. وهل المقاتلون الايغور الذين يأتون من الصين، والمقاتلون الوافدون من قيرغستان، والشيشان وأفغانستان وطاجكستان والسعودية وتونس واليمن وليبيا ومن دول أوروبية وأفريقية عديدة الذين يحاربون الدولة السورية، يريدون فعلاً تحقيق الحرية والديمقراطية للشعب السوري؟!

مقاربة روسيا للأوضاع في سورية وما يجري فيها، تختلف في العمق عن مقاربة واشنطن لها. فروسيا كانت جادّة في ضربها للإرهاب دون مراوغة أو مماطلة.. وقد أنجزت الكثير على الأرض. ولو كانت واشنطن جادّة في مواجهة الإرهاب وحسم الأمر، كما تفعل موسكو، لما بقي داعش حتى اللحظة وكلّ الفصائل الإرهابية التي تدور في فلكها تفعل فعلها المدمّر والقاتل على الأرض. لأنّ واشنطن لا تريد حسم الأمر بالشكل الذي يضمن بقاء النظام السوري المناوئ للسياسات الأميركية ولسياسات حلفائها في المنطقة، ويضمن أيضاً وحدة الأراضي السورية ووحدة الأراضي العراقية.

فهل واشنطن فعلاً تريد القضاء على الإرهاب؟ فكم من المرات أسقطت القوات الأميركية المؤن والأعتدة العسكرية على المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهابيين ثم تقول واشنطن في ما بعد، إنّ هذا تمّ عن طريق الخطأ. وعندما تقوم القوات الأميركية بقصف منطقة تقع تحت سيطرة الجيش السوري، ويسقط أكثر من ثمانين شهيداً ومئة جريح تقول إنّ هذا تمّ عن طريق الخطأ، وتريد منّا بالتالي أن نصدّقها، وكأننا أمام جيش انكشاري ولسنا أمام أعظم جيش في التاريخ بما يملكه من الوسائل الأكثر تطوّراً ودقة وتعقيداً وفعالية.

واشنطن وما لديها من قوة عسكرية لا يجاريها أحد في هذا العالم، ومن نفوذ واسع، غضّت النظر عن التوغل التركي في شمال العراق وسورية. كما غضّت النظر عن التوسع الكردي في الشمال العراقي والسوري، وهي كانت وراء دعم الفصائل المسلحة – ومنها الإرهابية الموصوفة – في كلّ مرة يتقدّم فيها الجيش السوري للقضاء على البؤر الإرهابية.. بل كثيراً من المرات أرادت واشنطن أن تحقق التوازن العسكري والميداني بين الجيش السوري والفصائل المسلحة بغية إطالة أمد الأزمة وجر الدولة السورية إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تحقق واشنطن منها ومعها حلفاؤها في المنطقة هدفها وهو انهيار الدولة والنظام السوري، وإدخال سورية في ما بعد في فلك السياسة الأميركية ومصالحها.

إذا كانت روسيا وهي تحارب الإرهاب تجد من مصلحتها ومصلحة كلّ من يعنيه ذلك، الوقوف بجانب الدولة السورية، فإنّ واشنطن وهي التي تعلن عن محاربتها له، تريد أن تمسك بأوراق عديدة تتحرك من خلالها، كي تفرض شروطها عند أيّ حلّ سياسي مستقبلي لسورية، وعند إجراء المفاوضات بين النظام السوري وقوى المعارضة السياسية والمسلحة. ففي يد واشنطن الورقة الكردية، تعتمد عليها، وورقة الجيش الحر، والورقة التركية، والورقة الإقليمية لدول انخرطت مباشرة في الحرب السورية بغطاء قبيح من الجامعة العربية، وورقة «إسرائيل» وتدخلها المباشر وغير المباشر في مجريات الأحداث الداعم للتنظيمات الإرهابية وورقة الفصائل الإرهابية التي استبدلت تسميتها من النصرة إلى فتح الشام، لتصبح مقبولة من قِبَل واشنطن وحلفائها لتراهن عليها في ما بعد عند أيّ مفاوضات تجري مع النظام. وبذلك تتغير الأسماء ويبقى الإرهاب واحداً.

فأيّ سورية تريدها واشنطن حقيقةً؟! هل تريد دولة للأكراد في شمال سورية، أو فدرالية أو ما شابه ذلك؟! هل تريد الاستجابة لمطالب تركية تأتي على حساب السيادة السورية، وبوجود تركي دائم في شمال سورية؟! هل تريد واشنطن فعلاً الحفاظ على الوطن السوري عند أيّ حلّ سياسي، أم أنها تريد تفكيك الجغرافية السورية والعراقية، والتفكيك هو مطلب وهدف استراتيجي لـ «إسرائيل» منذ أن ظهر بوضوح في مجلة Kivonim «الإسرائيلية» في 14 شباط/ فبراير 1982، حيث لم تتخلّ «إسرائيل» لحظة عن تحقيقه؟! هل تريد واشنطن فعلاً القضاء على الإرهاب في سورية والعراق، أم تريد تفكيك سورية والعراق؟! وإذا كانت واشنطن ومعها التحالف الدولي بعد مرور عامين تقريباً على العمليات العسكرية ضدّ داعش، لم تحقق لغاية اليوم الهدف المطلوب، فهل يُعقل أنّ دولة عظمى لا يوازيها أحد في قوتها العسكرية في هذا العالم لم تستطع حسم الأمر حتى الآن، لتترك فصائل الإرهاب تتمدّد وتتوسّع من هنا وهناك، ثم يدور الجدل البيزنطي العقيم في ما بعد، حول ما هي التنظيمات المسلحة المعتدلة، وما هي التنظيمات الإرهابية، وكأنه مسموح ومقبول في القاموس السياسي الديمقراطي لواشنطن، وجود فصائل مسلحة تقصف وتدمّر وتقتل وتشرّد، ثم توصف بعد ذلك بالاعتدال ضاربة عرض الحائط بالحياة السياسية واللعبة الديمقراطية والتحوّل الديمقراطي السلمي.

والسؤال الذي يُطرح، هل تقبل الولايات المتحدة لنفسها ما تطرحه على الآخرين؟! وأيّ صدقية هي صدقيتها في هذا المجال؟! هل تقبل واشنطن بفصائل مسلحة معتدلة على أراضيها تأتي من الداخل والخارج، تريد التغيير والإطاحة بنظامها؟! إنّ الإرهاب واحد لا يتجزأ، معتدلاً كان أم متطرفاً، طالما أنه مموّل ومسلّح من الخارج، وأنّ غايته التدمير والقتل والتهجير.

إنّ العالم لا يؤخذ بالخداع ولا بسياسات النفاق.. فآن الأوان لقول الحقيقة والعمل على وقف الإرهاب ووقف نزيف الدم والدمار، وترك المنطقة تعيش بسلام. فهذه مسؤولية المجتمع الدولي وبالذات مسؤولية الدولة العظمى: الولايات المتحدة.

فمتى تستعيد الولايات المتحدة بعض الثقة لدى شعوب المنطقة التي تعاني المآسي والدمار، والتي لا تحتفظ في ذاكرتها سوى بالمرارة والاستياء من سياسات دولة عظمى لم تأخذ بالاعتبار يوماً تطلعاتها وأمانيها في الحرية الحقيقية، وعدم التبعية والقرار المستقلّ البعيد عن سياسات الهيمنة والتسلّط والاستغلال.

فأيّ عراق وأيّ سورية تريد واشنطن؟! وأيّ إرهاب تريد القضاء عليه بمفهومها الأميركي؟!

آن الأوان للولايات المتحدة أن تفتح صفحة بيضاء في المنطقة، التي وللأسف لم تشهد إلا ويلات السياسات الأميركية التي لا زالت تعاني منها منذ عقود وحتى اليوم.. ولو أحسنت الولايات المتحدة سياساتها وفي عالمنا العربي بالتحديد وتعاطت مع شعوبه بشفافية وصدقية كاملة، لكنّا وجدنا في كلّ بيت علماً أميركياً يعبّر حقيقة لا وهماً عن قيم ومبادئ الثورة الأميركية.

فمتى تعيد واشنطن النظر في سياساتها حيال المنطقة؟!

يبدو أنه من المبكر أن نشهد تغييراً في سياساتها العبثية المنحازة، طالما أنّ المبادئ في خدمة المصالح، وعندما تتصادم المبادئ الأميركية بالمصالح… يضحّى بالمبادئ وتُحفظ المصالح وإنْ كانت على حساب الشعوب واستقرارها وأمنها وسيادتها وحريتها.