- لا يمكن لأحد أن يحجب عن حزب الله حقه في الاحتفال بالنصر الذي حققه بفرض ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية على الرئيس سعد الحريري، وجعل هذا الترشيح ممراً إلزامياً لملء الفراغ الرئاسي وإعادة تحريك عجلة الدولة ومؤسساتها، فقد وقع الاستحقاق الرئاسي في لبنان على لحظة توازن سلبي في موازين القوى الإقليمية والدولية التي تحكم صراعاً دموياً وجودياً بين معسكرين، يقف حزب الله كرأس حربة في مقدّمة أحدهما، ويتربع الرئيس سعد الحريري على رأس الفريق المحلي المرتبط عضوياً والمتورّط كلياً في خنادق القتال في الحرب التي وقف حزب الله على ضفتها المقابلة، ولذلك كانت بداية المواجهة بمرشحين رئاسيين يمثل كلّ منهما الصقور في جبهة حلفائه، فتقابل العماد عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ومع دوران الموازين دورة أولى لصالح الجبهة التي يمثل حزب الله قيمتها المضافة حدث تحوّلان لصالحه: الأول سحب الحريري لترشيح جعجع لحساب أحد حلفاء حزب الله المقرّبين، النائب سليمان فرنجية أملاً بتحقيق توازن خسائر يأتي بفرنجية حليف حزب الله بترشيح من الحريري، وبسحب حزب الله دعمه لمرشحه العماد عون مقابل سحب الحريري لمرشحه جعجع، والتطور الثاني انتقال جعجع إلى صفوف داعمي ترشيح العماد عون منعاً لوصول فرنجية. فكان إصرار حزب الله بعناد أشدّ على مواصلة التمسك بترشيح عون واعتباره ممراً إلزامياً للرئاسة اللبنانية، متحمّلاً نزفاً وآلاماً في معسكر تحالفاته برفض السير بحليف موثوق ووازن للرئاسة، وتحمّل فتور مع حلفائه الذين وجدوا للاعتبارات المحلية أنّ ترشيح فرنجية فرصة تحقق لحزب الله ما يريده على المستوى الإقليمي وتشكل لهم فرصة تعاون مع مرشح رئاسي مريح مقارنة بعلاقاتهم المتوترة بعون. وفي مقدمة هؤلاء رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وبعد صمود لشهور وتحمّل للضغوط ورهان الكثيرين على استحالة بلوغ الحريري مرحلة «الانتحار السياسي» بالقبول بعون حدث ما لم يكن في الحسبان، وتحقق لحزب الله ما أراد ورضخ الرئيس الحريري وسار وفق الطلب المحدّد، يعلن الترشيح أولاً ثم نبدأ بالعمل لتذليل العقبات.

- ليس ثمة فرصة للنقاش في أنّ المشهد اللبناني السريالي داخلياً، والمليء بالألغاز والأحجيات بمواقف الأطراف من الاستحقاق الرئاسي لا يستطيع أن يحجب حقيقة النصر المدوّي الذي حققه حزب الله، والذي يعادل نصره في حرب تموز، وسط غياب دولي وإقليمي عن معادلة الرئاسة اللبنانية، وتراجع في الحلف الذي يقف الحريري على خطوط تماسه، وبلوغ أزمات هذا المحور حدوداً جعلت الحريري يختار المرّ بدلاً من الأشدّ مرارة، مع تداعيات هزيمة حلفائه وإفلاسهم المالي، خصوصاً ما يصيب السعودية سياسياً وعسكرياً ومالياً، فيما يشعر حزب الله ويتلمّس معالم انتصارات حلفائه في اليمن والعراق وسورية، منذ توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني وتكريس الحليف الأول لحزب الله مرجعاً إقليمياً يُحسَب له الحساب، وما تلاه من تكريس لمكانة روسيا كحليف دولي قوي صانع حاسم للسياسات في حوض البحر المتوسط. ولا شك في المقابل أنّ حسن اختيار حزب الله لمرشحه الرئاسي ساهم كثيراً في توفير مقومات الصمود الداخلي في هذه المعركة، بانتظار أن تفعل المعادلة الإقليمية الدولية التي ربط خصومه موقفهم من الرئاسة بها، منذ خطاب الحريري الشهير بعزمه ألا يعود إلى بيروت إلا من مطار دمشق بعد سقوط الدولة السورية ورئيسها، مع بداية الأزمة السورية. وقد وفر هذا الاختيار معياراً متفوّقاً لصالح حزب الله هو اعتماد تمثيل الطوائف في المناصب التي تقع من نصيبها التمثيلي بين الرئاسات للأوسع تمثيلاً من زعمائها، ما منح معادلة ترشيح عون أسباباً موجبة موضوعية يمكن الدفاع عنها بقوة ومنح عون المرشح فرصة التفاوض مع الحريري بصفته فرصته للعودة إلى رئاسة الحكومة، وفقاً لمقياس ترشيحه ذاته، بصفته الأوسع تمثيلاً في طائفته. لكن ما كان لهذه العوامل أن تثمر هذا النصر لحزب الله لولا التعامل المنضبط بأدبيات التحالف من شركاء حزب الله المحليين، خصوصاً المعنيين الأساسيين منهم بالاستحقاق الرئاسي، فلا النائب فرنجية كمرشح ذي حظوظ كبيرة في مرحلة تبلور أكثرية قابلة لمنحه فرصة الفوز رضي بالتخلي أو المقامرة بحلفه مع حزب الله لقاء إغراء الرئاسة، ولا رئيس المجلس النيابي المؤيد لفرنجية والمعترض على وصول عون رضي بخوض هذه المغامرة. فكان نصر حزب الله الذي يحتفل به العماد ميشال عون اليوم، ثمرة صمود الحزب وثباته كما هو ثمرة صمود العماد وثباته، لكنه أيضاً ثمرة حرص الحليفين بري وفرنجية ووفائهما.

- يُنهي حزب الله ترصيد النصر الإقليمي الدولي اليوم مع إعلان الحريري لترشيح عون، ليبدأ مسيرة منع تحوّل النصر الإقليمي الدولي غير المسبوق برئيس «صنع في لبنان»، هو رئيس حليف موثوق للمقاومة وصديق لسورية، إلى خسائر يتشظّى معها حلف المقاومة في الداخل، فتصاب علاقة حزب الله بالشريك السياسي والعسكري والديمغرافي والاجتماعي والثقافي بالتأزم والتوتر، وتصاب هذه الشراكة الاستراتيجية بين حزب الله والرئيس بري بالجفاء إذا لم يبادله حزب الله بالمثل موقفاً من رفض السير بالرئاسة إلا بالتشارك، كما تُصاب البيئة السياسية لحلفاء حزب الله في الداخل بخسائر متعدّدة من شظايا التفاهمات الداخلية المحيطة بوصول العماد عون للرئاسة، كالتفاهم مع الحريري من جهة والتفاهم مع القوات اللبنانية من جهة أخرى، ليجد حزب الله نفسه أمام استحقاق لا يقلّ أهمية وخطورة عما مضى. كيف يعيد تدوير النصر بما حققه من أرباح إقليمية ودولية، كأرباح يتقاسمها الحلفاء في الخيارات الواحدة، لا كأرباح للبعض وخسائر للبعض الآخر، فلا يتحوّل عرس في مكان إلى مأتم في مكان آخر.

- تحويل الربح الإقليمي والدولي إلى أرباح محلية شرط استمرار هذا الربح ووهجه. وقد بدأ مع تكريس رصيد الرابح الأول، الحليف الذي صمد كمرشح واستحق دعم الحزب بجدارة حجمه التمثيلي وصموده السياسي، الذي يشعر اليوم أنه بات أقرب من أي يوم آخر لدخول قصر بعبدا رئيساً للجمهورية. والتحدي الراهن كيف يتمكن حزب الله من خلال هذا الرصيد إعادة تدوير أرصدة الأرباح وتوزيعها على الحلفاء بدلاً من توزيع الخسائر. والأمر ليس مجرد طمأنة ضدّ الثنائيات والثلاثيات، على أهميتها، بل بالتشارك الحقيقي في نموذج للحكم يجسّد قيم التحالف التي قدّم حزب الله مثالاً على ممارستها بمعايير الوفاء والإيثار، فيقدّم العماد عون المرشح الرئاسي الأوحد، من موقعه الجديد، ما يبدّد الشكوك والهواجس بعروض للشراكة لا يمكن رفضها من الحلفاء المتوجّسين، والذين لا يقاس موقفهم منه بما يقولونه ضدّه اليوم، ويثير جمهور مؤيدي العماد الفرحين بترشيحه ضدّهم حملات التشنيع، فيراهم بعض هؤلاء المؤيدين أعداء ويصير الحريري الذي كان عدو الأمس أو جعجع الذي كان عدو أول أمس صديقاً. يقاس موقف هؤلاء بالتمعّن في سؤال، ماذا لو ارتضى بري وفرنجية النزول إلى جلسة انتخاب رئاسية بدون شراكة حزب الله يوم كان ترشيح فرنجية مدعوماً من الحريري والنائب وليد جنبلاط وما كان ثمة مشكلة بتوفير النصاب ولا بتأمين الأغلبية، وهل كان يمكن وصول الأمور إلى ما وصلته اليوم لولا وقوفهما هذا الموقف؟

- نموذج الرئيس المنتصر بقوة ثبات المقاومة ووفاء حلفائها لها، ولو ضدّ مصالحهم، يتجسّد بجعل النصر جامعاً للحلفاء، ليس بتبويس اللحى بل بالتنازل عن المكاسب وتدويرها بين الحلفاء، ورفضاً لإغراء احتكارات سيشجع الحريري عون على ارتكابها لينال مثلها، بينما الاستقرار والازدهار والانطلاق بعهد قوي قادر وقف على تركيبة حكم جامع، تتوازى فيه المكاسب مع الأدوار والتضحيات في بلوغ النصر وليس مع المواقف الكلامية بحق الترشيح، فصيغة الحكم التي سيعرض نموذجها العماد عون على الحلفاء ومدى اتساعها لأحجامهم كشركاء كاملين في رسم الخيارات واتخاذ القرارات، لا كجوائز ترضية تعرض عليهم، هو الذي سيقول ما إذا كان حلف المقاومة الداخلي قادراً على استيعاب نصره الإقليمي والدولي، بعدما دخل هذا النصر إلى البيت وجلب معه رياحه إلى الاستحقاق الرئاسي. وهذا الاتساع المفتوح الصدر للشراكة المتوازنة والمتكافئة وحده ينفي ما يُقال عن تفاهمات تحت الطاولة وعن ثنائيات وثلاثيات، ويطمئن النفوس والهواجس ويؤسّس لعهد الاستقرار والازدهار وقيام الدولة.