في رحلة البحث عن المدماك الأول في "بيت الشعب" كما يحلو للعونيين أن يسموه، يبدو الدكتور سمير جعجع هو الأكثر حكمةً على قاعدة: الربح الأكبر والخسارة الأقلّ، فيما يتخبّط الآخرون إما في خساراتٍ شعبية وإما في اعتراضاتٍ من أبناء الكتلة الواحدة وإما في سيناريوهاتٍ قد لا توصلهم الى أيّ مكان.

فعل الرئيس سعد الحريري مع العماد ميشال عون ما لم يفعله مع النائب "الصديق" سليمان فرنجية. أعلنه مرشّحه الرسمي وسط وجوهٍ عابسة "معبّقة" وصفٍّ أول لا تطاوعه إيديه للتصفيق لذاك الإعلان "التاريخي". ماذا بعد؟

بلا بركة؟

هو السؤال الأكثر جوهريةً في الأيام القليلة المتبقيّة أمام عون لإنهاء جولاته وصولاته على الحلفاء والمعترضين بصفته مرشحًا وطنيًا ستصبّ في صندوقته أصواتُ الكتل الرئيسة الأكثر تمثيلًا في طوائفها بدءًا بحزب الله ممثلًا الشيعة رغم اعتراض الرئيس نبيه بري، مرورًا بالمستقبل ممثلًا السنة، والتقدمي الاشتراكي ممثًلا الدروز وصولًا الى كتلته والقوات ممثلتي المسيحيين. يعلم العونيون في قرارات أنفسهم أن زيارات جنرالهم قد لا تجدي نفعًا، بدليل أن وجه بري ليل أمس الأول عندما قصده العماد عون في دارته لم يكن أقلّ عبسًا من وجوه المعترضين في تيار "المستقبل". ومع ذلك، أرادها عون المهادن المدوزن خطابه بما يليق برئيس مقبل، على هذه الشاكلة. أراد لنفسه أن ينفتح على الجميع حتى أولئك الذين جاهروا بعدم التصويت له في جلسة الحادي والثلاثين إن عُقِدت. مستعجلًا يبدو العماد في زياراته ومردُّ ذلك على ما علمت "البلد" الى سعيه وحليفه جعجع الى إنهاء الحكاية إيجابيًا أواخر هذا الشهر وعدم الغرق في الإرجاءات التي قد تمهّد لإحراق ورقته". كلامٌ قد لا يتطابق وتفكير حزب الله الذي يفضّل إرساء اتفاق داخل المحور الواحد قبيل التوجُّه الى أّيّ جلسة.

ميزان الربح والخسارة

من يفوز في هذه التسوية في حال إتمامها على خير؟ يبدو جليًا من الأريحية التي تعتلي تفاصيل محيّا الدكتور جعجع أنه الأكثر تفلّتًا من كلّ الالتزامات، لا بل ينتظر من سواه الإيفاء في بعضٍ منها وزاريًا، وعليه ضرب الرجل ضربته في أعقاب ترشيح الحريري لفرنجية، ومضى في دعم ترشيح عون الى أن وصل الى مبتغاه وفرضه مرشحًا مسيحيًا أساسيًا. تفكير الرجل غير محدودٍ على ما يبدو، والعينُ على الشارع المسيحي المتعاطف مع خطوةٍ "جبّارة" وسموحة تبقى هي الأساس. بالنسبة الى العماد عون قد يتحقق حلمه الثمانيني قريبًا بعد كثرة الصفعات. هو المرشّح الأبرز الذي لن يحظى بإجماع تصويتي ومع ذلك يبدو أنه "كسر" بعض القواعد لا سيما تلك المتعلقة بـ"تعنّت" بعض أصحاب الرؤوس الكبيرة وحاول أن يقول لهم بصورةٍ غير مباشرة: "لستم أنتم من تقررون". على جبهة النائب جنبلاط، يبدو الأمر أشبه بقطف الثمار في أيّ تسوية. هو أكثر من يجيد استجرار المكاسب ونهلها رغم كلّ تلميحاته التشفيرية التي تسبق قراره. سيقطفها البكّ كالعادة في الجبل وفي الحكومة.

الأكثر توازنًا...

أما الرئيس الحريري وهو بيت القصيد، فيبدو الأكثر توازنًا من حيث الربح والخسارة وصوابية التكتيك من عدمه. أولًا، ورغم "التكشيرة" التي مُنِي بها من بعض حاضري إعلان ترشيح عون، فهم الحريري أن خطوته تلك هي السبيل الوحيد الى عودته الى السلطة التنفيذية معزًزا مكرّمًا لا بل رئيسًا توافقيًا لا يعرقل أحدٌ مساره ولا يهدّد مصيره كما يحصل اليوم في حكومة المصلحة الوطنية، خصوصًا أن الحكومة ستضمّ جميع الأطراف. ثانيًا، يُلمِح كثيرون الى أن الحريري أفلح في شقّ الصف المسيحي في مرحلةٍ أولى مع ترشيح فرنجية، ثمّ شقّ الصفّ الشيعي اليوم نسبيًا مع سابقة في تحالف حزب الله وأمل ستتجسّد في ذهاب كلٍّ من الفريقين في اتجاه معاكس في جلسة التصويت المقبلة. ثالثًا، وعلى مستوى الاهتزازات التي سيُحدثها هذا الإعلان، فتتمثّل في عنصرين أساسيّين: أولًا سيتوجّب على الحريري إعادة "ضبضبة" بيته الداخلي في غمرة الأصوات المعترضة على قراره والمجاهرة بعدم التزام كلمة الرئيس بالتصويت لعون، وهذه الأصوات قد تطالها إجراءاتٌ جديّة في وقتٍ لاحق، خصوصًا أنها "تقزّم" بتصاريحها المناوئة "زعامة" الحريري الذي قرر العودة من بوابة قويّة لا واهنة. ثانيًا، سيكون التحدّي الأكبر في استعادة شعبيته المترهّلة أصلاً والمهدّدة بمزيد من الترهّلات بعد قراره ترشيح عون، وهو ما تعتبره مصادر "مستقبلية" مقرّبة مهمة غير صعبة، إذ إن عودة الحريري الى لبنان وبالتالي الى السلطة ستعيد قاعدته الى أحضانه لا سيما عندما تفهم أن ما فعله هو الصواب للبنان ولها.

ثالث أهمّ المفاجآت

بعد تفاهم مار مخايل والتحالف العوني-القواتي، وسواء وطأت قدما عون قصر بعبدا أم لم تفعلا، تُعدُّ خطوة الحريري الجريئة ثالث أهمّ المفاجآت في لبنان منذ مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وفيما تبدو الطريق معبّدة أمام البرتقاليين، تبقى المغالاة محظّرة عليهم بقرار من رئيس التيار جبران باسيل الذي تمنّى عليهم منذ يومين في رسائل نصيّة التواضع السياسي والإعلامي والشعبي، وترك الاحتفالات الى مرحلة الفوز لأن المرحلة تقتضي الاستيعاب والترفّع والأخلاق السياسية وتفادي الإشكالات. في الانتظار، تسعة أيام تفصل المجلس عن إنتاج رئيس جديد إلا إذا كان مصير الجلسة المقبلة كسابقاتها لا بتطيير النصاب هذه المرة بل بإرادة جامعة أو شبهها لتنتصر الذريعة الأمّ: "لمزيد من التشاور".