- جاءت الرسالة التركية في لبنان عبر رفع الأعلام في مسيرة مساندة للوزير أشرف ريفي لتكشف هوية الراعي الإقليمي للوزير المنشقّ عن تيار المستقبل، لكنها وبمعزل عن التفاصيل اللبنانية الرئاسية التي لا يملك ريفي ولا الأتراك من خلفه قدرة وفاعلية للتأثير في مجراها، جاءت لتقول إنّ تركيا لاعب إقليمي في سورية والعراق ولبنان، عدا عن تظهير الدور التركي فلسطينياً والقطيعة التركية المصرية ومن خلفها الرعاية التركية للأعمال التخريبية للإخوان المسلمين على الأمن المصري، وصولاً إلى ليبيا، ما يعني أنّ التموضع التركي بعد التصادم الكبير مع روسيا، بالذهاب لتطبيع العلاقات معها والبحث عن سقف جديد للدور التركي، لم يصل إلى إنتاج فهم تركي قادر على استيعاب التوازنات والموازين الجديدة.

- الإصرار التركي على المشاغبة عبر البوابتين السورية والعراقية عسكرياً، يتناقض جوهرياً مع الوجهة التي رسمها الانهزام التركي أمام روسيا وقبول شروطها للسير في تطبيع العلاقات، ويؤشر لمحاولة تركية لاختبار بالنار للسقوف التي يمكن على أساسها رسم الدور الإقليمي التركي الجديد، والخطاب التركي الراهن بما يحمل من لغة عثمانية، تمنح عبره دولة لنفسها، يفترض أنها تعمل وفق قواعد القانون الدولي، حق التدخل العسكري والتموضع ولعب أدوار ترسمها هي لذاتها ضمن الحدود الدولية لدول أخرى ذات سيادة، فما يقوله الأتراك عن تفسير ما يفعلونه في سورية والعراق من دون موافقة حكومتي البلدين، لا يشبهه إلا خطاب أميركي بائد ومنسيّ، منذ الاحتلال الأميركي للعراق من وراء ومن خارج الأمم المتحدة والقانون الدولي، وهو خطاب تخلّى عنه الأميركيون في مراحل الاعتراف بفشل خيارهم العسكري في العراق وأفغانستان، وهو ما ترجمه التدخل في ليبيا والإحجام بدون التفويض الأممي عن التدخل المباشر في سورية.

- لا فرص حياة للخطاب التركي ولا إمكانيات للتسويات معه، في ظلّ الشعور التركي بفراغات تكتيكية يتوهّمون أنها استراتيجية في الجغرافيتين السورية والعراقية. وبناء على هذا الوهم ذهب الأتراك في اختيارهم لجغرافيا غرب الفرات في سورية كميدان للعب العسكري باعتباره مناطق تقع خارج الملعب الذي رسمته واشنطن لنفسها وتسعى لانتزاع مقدار من الشرعية له من الدولة السورية من بوابة التفاهم الروسي الأميركي، ومثله اللعب التركي شرق مجرى نهر دجلة في العراق للاعتبار نفسه، حيث الملعب الأميركي المرسوم بين مجرى النهرين، يتغطى عراقياً بالتحالف الدولي للحرب على داعش، ولا يخفى ما يقوم به الأتراك من ربط دورهم بقطع حبال الصرة مع داعش عراقياً، ومع جبهة النصرة سورياً بالحصول على قبول سوري وعراقي بهذا الدور التركي، من دون أن ينتبهوا أنّ الأميركيين أيضاً يفاوضون على رأس النصرة وداعش، لكن وفق جدول طلبات أخرى يتصل أساساً بمستقبل الحدود السورية العراقية، وليس بالتطلعات التركية التي تلعب في جغرافيا رخوة موقتاً، لكنها ستصير تحت الضوء وتحت النار معاً بعد حسم حلب سورياً وحسم الموصل عراقياً، ولن يكون بمقدور الأميركيين توفير الغطاء لأنقرة، وسيجدون موسكو تُشهر بوجههم البطاقة الحمراء.

- تأتي قيمة الموقف السوري الرادع للمشاغبات التركية بجناحَي، معركة حلب، والتهديد بإسقاط الطائرات، لتلاقي قيمة الموقف العراقي برفض صيغة التسوية الملفقة التي أراد وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر تمريرها. ما يعني أنّ المواجهة السياسية التي قد تصبح عسكرية في أيّ لحظة بوجه التوغّل التركي في سورية والعراق، خصوصاً مع الاتجاه في البلدين لتشكيل أفواج مقاومة تعامل هذا التوغل كاحتلال، يُبدي الأكراد السوريون الاستعداد للانخراط فيها، باستعادة الحرارة لعلاقتهم مع الدولة السورية المستعدّة لرعاية هذه المقاومة في سورية، بينما يستعدّ الحشد الشعبي لإطلاق هذه المقاومة في العراق. وفي الحالتين ستحظى هذه المقاومة برعاية أو احتضان وتغطية من الحكومتين السورية والعراقية.

- يتقدّم التنسيق والتكامل في الجهود بين الحكومتين والجيشين في سورية والعراق، بصفته المهمة الرئيسية الراهنة في مواجهة ما يتخطى التخريب التركي، إلى الاستعداد للمخاطر المرافقة للحرب على تنظيم داعش الذي يخطط لقتال تراجعي من المدن الكبرى الواقعة على ضفاف نهري دجلة والفرات، إلى المساحات الشاسعة بين النهرين، ويحظى هذا المخطط بقدر من التغطية الأميركية، حيث تكتفي واشنطن ببريق تصفية داعش في المدن ذات السماء الرنانة الموصل، وقبلها تكريت على مجرى نهر دجلة والرمادي على مجرى نهر الفرات عراقياً، وبالرقة ودير الزور الموجودتين على ضفاف نهر الفرات سورياً، وتطمح لإدارة حرب طويلة على داعش ما بين النهرين، لتمنحها هذه الحرب فرصتها المنشودة للمفاوضة على ما تطمح إليه من امتيازات أمنية في كلّ من سورية والعراق.