منذ ما قبل إعلان رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ تبنّي ترشيح رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، يُقال الكثير من الكلام عن أنّ "الشيخ سعد" بخطوته هذه "ينتحر سياسياً"، وأنّه بالتالي "الخاسر الأكبر" بعدما خاطر بكلّ ما تبقى له من رصيد سياسي وشعبي، على ضعفه.

وإذا كان "تمرّد" عددٍ من نواب الحريري عليه، واستغلال الكثير من "خصومه" لخطوته لـ"المزايدة"، عزّزا هذه النظرية، فإنّ الكثير من المحيطين به يرفضون تبنّيها، بل يعتبرون الرجل "رابحاً" ممّا حصل، ويذهبون لحدّ الحديث عن "لائحة طويلة من الخاسرين"، لا يبدو الحريري على رأسها، ولا حتى من ضمنها...

وبين فرضيتي "الحلقة الأضعف" التي يروّج لها الكثيرون، و"المنتصر الأكبر" التي ينظّر لها آخرون، يبقى السؤال، هل بات مصير الحريري فعلاً على المحكّ بعد كلّ ما حصل؟

فقاعات صابون؟

عندما اختار رئيس "تيار المستقبل" أن يذهب إلى خيارٍ كان يصفه بـ"المُرّ" بتبنّي ترشيح العماد عون للرئاسة، كان يعلم أنّه سيُقابَل للوهلة الأولى باعتراضاتٍ من داخل بيئته الحاضنة، كما كان يدرك تمام الإدراك أنّ خصومه، خصوصًا في الساحة السنية، لن يتأخّروا في "استغلال" موقفه لـ"المزايدة" عليه بكلّ الوسائل الممكنة. إلا أنّ ما لم يتوقّعه الحريري هو أن يكون عددٌ من نوابه هم "المبادرون" لسلوك درب "المزايدة" حتى قبل أن يجفّ الحبر الذي كتب فيه قراره، من دون أن يحسبوا حساباً للانعكاسات "السلبية" لمثل هذا الموقف من إضعافٍ لمن يفترض أن يكون "زعيمهم"، فيما كانت عبارات "الثناء" تأتيه من خصومه، في مفارقةٍ لافتةٍ للانتباه.

ولكن، وعلى الرغم من ذلك، يعتبر "المستقبليون" المؤيّدون لخطوة الحريري أنّ هذه الاعتراضات لا تعدو كونها، على أهميتها، فقاعات صابون بدأ أثرها بالانتهاء. صحيحٌ أنّ الحريري لم يستسغ خروج هؤلاء بمواقفهم "المتمايزة" عبر الإعلام، في ما بدا وكأنّه "بازار" لم يتردّد بعض المنخرطين فيه من "المزايدة" على الحريري نفسه من قلب بيته، بشعارات الوفاء لمؤسّس التيار رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والولاء ل​اتفاق الطائف​ وغيرها، إلا أنّ الأصحّ من ذلك أنّ "الفورة" التي أحدثوها انتهت في مكانها، ولن تؤدي لأي أزمة، خصوصًا بعدما تمّ وضعها في سياق "ديمقراطيةٍ قلّ نظيرها بين الأحزاب السياسية".

وينطلق هؤلاء من "الانتقادات" التي وُجّهت لـ"المتمرّدين" قبل الحريري، حيث أنّهم لم يكونوا موفّقين لا في الشكل وفي المضمون، وهم الذين يدرك الرأي العام أنّهم بأغلبيتهم لا يتمتعون بأيّ حيثية سياسية أو شعبية من دون رئيس التيّار، علمًا أنّ الاتصالات التي باشر بها مع هؤلاء ساهمت وستساهم في تقليص أعدادهم إلى الحدود الدنيا، عشية جلسة 31 الجاري. ولعلّ البيانات التوضيحية التي صدرت عن العديد من "المشاغبين"، خصوصًا لجهة تكريس "زعامة" الحريري، هي من الثمار الأولى للجهود المبذولة على هذا الصعيد.

حالة مضخّمة...

ومن داخل التيار "الأزرق" إلى خارجه، يؤكد "المستقبليّون" الموالون للحريري أنّ محاولات "خصومه" على الساحة السنية استثمار مواقفه لتحقيق بعض المكاسب المجانية في الشارع لن تنجح، ليس لأنّ الحريري سيكون قادراً على استعادة الشارع فور وصوله إلى السراي الحكومي فحسب، بل لأنّ الشارع بكلّ بساطة، وإن لم يكن متحمّساً لخيار ترشيح العماد عون، فهو على الأكيد لن ينجرّ للمحاولات "الانقلابية" التي يذهب إليها البعض. ويستند "المستقبليون" في هذا السياق إلى "حالة" وزير العدل المستقيل ​أشرف ريفي​، التي يقولون، أنّها ضُخّمت كثيراً وأعطيت ما يفوق حجمها بأضعافٍ مضاعَفة، وما عجز الرجل عن "تجييش الشارع" خلال اليومين الماضيين، كما سعى، سوى خير دليلٍ على ذلك.

أما "المشكلة" مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، فلا يعطيها "المستقبليون" حجماً كبيراً، إذ يبدون مطمئنين إلى أنّها "ستُعالَج عاجلاً أم آجلاً". وإذا كان كثيرون اعتبروا أنّ "الشيخ" خسر بخطوته الأخيرة حليفاً مستتراً أساسياً، في إشارة إلى بري، فإنّ "المستقبليين" يعتقدون أنّ الخسارة "مؤقتة ليس إلا"، باعتبار أنّ الرجل يرفع سقفه اليوم لتحصيل المكاسب، وهذا حقه المشروع. إلا أنّهم مقتنعون بأنّ ما حصل أضرّ بـ"الأستاذ" أكثر من "الشيخ"، كيف لا وقد ظهر في موقفٍ محرَجٍ، تناقضت فيه ممارساته مع الكثير من الشعارات التي كان يطلقها من "فليتفق المسيحيون وأنا مستعدّ للسير معهم" إلى "أنا مع الحريري ظالماً أم مظلوماً"، فإذا به يقف في مواجهته عند أول افتراقٍ.

مكاسب بالجملة...

وفي مقابل المشاكل "المضخَّمة"، على حدّ وصف "المستقبليين"، فإنّ هناك الكثير من "المكاسب" التي تحققت وستتحقق في قادم الأيام برأيهم، والتي يجدر لمن يقارب الأمور بواقعية وتوازن أن يتوقف عندها، ويضعها في ميزان الإيجابيات والسلبيات، قبل إطلاق الأحكام، التي تبيّن أنّها مسبقة وعاطفية في معظمها.

ولعلّ المكسب الأول الذي حقّقه الرجل، والذي لا غبار حوله على الإطلاق، أنّه "ضمن" العودة لرئاسة الحكومة، أياً كانت الإيحاءات بخلاف ذلك، ويكفي للتأكيد على ذلك كلام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الذي ردّ على كلّ المشكّكين بإعلانٍ صريحٍ عن أنّ "حزب الله" لا يمانع ترؤس الحريري للحكومة المقبلة، وإن وضع ذلك تحت عنوان "التضحية الكبرى". وفي حين لم يعد "المستقبليون" يخفون "الرهان" على العودة لـ"جنّة الحكم" لمعالجة الأزمات الكثيرة التي يتخبّطون بها، والتي كان لدى الحريري "الجرأة" على البوح بها في خطابه الأخير، فإنّ الاقاويل بأنّ الحريري لن ينجح في تشكيل حكومته لا تعنيهم، خصوصًا في ضوء "الضمانات" التي تلقّوها من أكثر من مكان.

وعلى أهمية هذه المكاسب التي ستصبح "ملموسة" مع الأيام، فإنّ "المستقبليين" يتحدثون عن العديد من "المكاسب السياسية" التي استطاعوا تحقيقها أيضاً، حتى في وجه "حزب الله"، سواء لجهة جرّ أمينه العام السيد حسن نصرالله على "الثناء" على ما وصفها بـ"شجاعة" الحريري، وتفاديه الردّ على تصعيده، تحت عنوان "الإيجابية". ويتباهى "المستقبليون" في القول أنّ الحريري، بخطوته الأخيرة، استطاع أن يوقع الوقيعة بين "حزب الله" وحلفائه، وخصوصاً "حركة أمل" في سابقةٍ من نوعها، وما حرص الرجل على تأكيد عمق العلاقات معها لمرّات ومرّات في خطابه الأخير سوى تأكيد على ذلك، خصوصًا أنّ الجانبين ذاهبان لمقاربة الاستحقاق الرئاسي والحكومي المقبل من زاويتين متناقضتين، وهو أمرٌ لا يمكن أن يندرج في خانة "التمايز بين الحلفاء"، بل من شأنه أن يضع "التحالف" على المحكّ، عندما يكون الاختلاف على قضايا بهذه الأهمية.

وعلى الرغم من أنّ الحريري سعى وراء "مصلحته"، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه ظهر بمظهر "المنقذ للجمهورية"، ما رفع أسهمه خصوصاً في الشارع المسيحي، إذ إنّه أكثر من بادر وتنازل في موضوع رئاسة الجمهورية، كما يقول "المستقبليون"، الذين يلفتون إلى أنّه الوحيد الذي حرّك ملف الرئاسة أكثر من مرّة، لدرجة أنّه لم يتبنّ ترشيح عون، إلا بعد أن مرّ على المرشحين الثلاثة الآخرين الذين كانت بكركي قد طرحتهم، في حين أنّ الفريق الآخر هو من رفض التجاوب مع كلّ طروحاته، وتمسّك بمرشحٍ واحدٍ، رافضًا أيّ طرحٍ آخر.

ضربة لـ"حزب الله"؟

ويبقى الأهمّ من كلّ ذلك، كما يقول "المستقبليون" أنفسهم، أنّ الحريري بتفاهمه مع "التيار الوطني الحر"، أنهى كلّ حديثٍ عن مؤتمر تأسيسي يهدف لتعديل اتفاق الطائف وتكريس المثالثة، وهو ما يصرّون على أنّه المشروع الحقيقي لـ"حزب الله" مهما نفى ذلك.

ولعلّ تحوّل "الجنرال" من "مهدّد للطائف" إلى "ضامنٍ له" يختصر القصّة كلّها، قصّة يضعها "المستقبليون" برسم كلّ من يزايد عليهم، في الداخل والخارج، لتبقى الأيام المقبلة هي "الفاصلة" بينهم...