مع إعلان دولة رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة إلى جلسة عامة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 31 الشهر الحالي لم يعد موضوع التأجيل وارداً، وبات الجميع يترقب انعقاد الجلسة وكيف ستجري عملية الانتخاب، هل ينتخب العماد ميشال عون من الدورة الأولى، أم من الدورة الثانية؟ وهل ستحصل أيّ مفاجآت غير منظورة يتوقع البعض أن تأتي، في اللحظة الأخيرة، إنْ كان من خلال محاولة تطيير نصاب الدورة الثانية، أو عبر توجيهات خارجية أميركية سعودية لنواب 14 آذار بعدم التصويت للعماد عون؟

من الواضح أنه إذا استمرّت التباينات بين أطراف الصف الوطني الواحد، أيّ بين العماد ميشال عون، وكلّ من الرئيس نبيه بري والنائب سليمان فرنجية، فإنّ انتخاب العماد عون سيتمّ في الدورة الثانية بنسبة تتجاوز النصف زائد واحداً، في أعقاب عدم حصوله على ثلثي الأصوات في الدورة الأولى، هذا إذا لم يحصل أيّ تطور طارئ، سياسي أو أمني.

لكن السؤال الأساسي الذي بات يُطرح، عشية انعقاد جلسة الانتخابية نهاية هذا الشهر، هو: هل هناك متغيّرات إقليمية ودولية تدفع كلّ من السعودية وأميركا اللتين أعطتا الضوء الأخضر للنائب ​سعد الحريري​ للإعلان رسمياً عن دعم ترشيح العماد عون، وبالتالي الموافقة على انتخابه، مقابل مجيء الحريري رئيساً للحكومة، إلى التراجع عن ذلك والانقلاب عليه؟

المتابع للتطورات الحاصلة في الإقليم يلحظ أنّ المعارك الجارية في سورية و​العراق​ واليمن، وكذلك الوضع في مصر، لا تسير في مصلحة الرياض وواشنطن، وليس هناك أية مؤشرات تظهر أنّ سير التطورات سوف يكون أفضل بالنسبة لهما، بل على العكس تماماً، ففي سورية القرار الروسي السوري الإيراني هو الحسم في شرق حلب بالقوة أو بخروج جميع المسلحين على غرار ما حصل في أحياء حمص القديمة، وأنّ أيّ محاولة أميركية تركية سعودية لن تنجح في الالتفاف على هذا القرار، لا سياسياً ولا عسكرياً، وما حصل بعد اجتماع لوزان من حزم روسي في هذا الموضوع مؤشر واضح على هذا الاتجاه، فيما الرسالة الأقوى جاءت بالأمس من القائد الميداني لقوات الحلفاء في سورية الذي وجه إنذاراً شديد اللهجة لكلّ من تركيا وأميركا بالقول: «أيّ تقدّم للقوات التركية تحت مسمّى «درع الفرات» أو غيره باتجاه خطوط دفاع حلفاء سورية في شمال وشرق حلب سيتمّ التعامل معه بحزم وقوة». وأضاف «إننا لن نسمح لأيّ كان بالتذرّع بقتاله لتنظيم داعش للتمادي ومحاولة الاقتراب من دفاعات قوات الحلفاء، وسنعتبر هذا الأمر تجاوزاً للخطوط الحمراء وسيكون الردّ عليه حازماً وقوياً».

أما في العراق فمن البيّن أنّ تحرير الموصل قد بدأ وأنّ الإدارة الأميركية تريد أن تظهر في صورة من ساهم في تحريرها من داعش، لتوظيفها في ​الانتخابات الرئاسية​ الأميركية في مصلحة المرشحة هيلاري كلينتون، ولهذا فشلت في محاولاتها الضغط على العراق لإشراك تركيا في العملية، نتيجة الموقف الموحد الرسمي والشعبي برفض التدخل التركي الساعي إلى تحقيق أطماع تركيا القديمة في الموصل.

وفي اليمن فإنّ السعودية باتت تعاني من مأزق كبير عسكري وسياسي واقتصادي نتيجة الفشل في تحقيق أهدافها من الحرب، وتصاعد التنديد الدولي بانتهاكاتها السافرة لحقوق الإنسان، لا سيما بعد المجزرة الوحشية التي ارتكبتها في صنعاء بقصف قاعة مجلس العزاء. فيما هي تعاني من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية على خلفية التكاليف الباهظة للحرب التي تحوّلت إلى حرب استنزاف لها.

هذه التطورات المترافقة مع عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، عبر حضورها العسكري النوعي في سورية، للعب دورها كدولة عظمى، وفرضها توازناً عسكرياً في مواجهة القوة الأميركية، أسهم في إضعاف الهيمنة الأميركية، وقطع الطريق على خطط واشنطن في سورية لفرض مشروعها الشرق أوسطي، ومحاصرة روسيا والصين ومنعهما من تحقيق هدفهما في العمل على وضع حدّ للأحادية القطبية الأميركية وبناء نظام دولي متعدّد الأقطاب.

من دون شك فإنّ هذه التطورات، التي تتزامن مع تمايز المواقف الأخيرة لمصر عن المواقف الأميركية السعودية، وإجرائها مناورات عسكرية مع روسيا على الأراضي المصرية لأول مرة منذ أقدم الرئيس السابق أنور السادات على قطع العلاقات مع الاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي، قلبت المعادلات الإقليمية والدولية وأحدثت تحوّلاً في موازين القوى في غير مصلحة الحلف الأميركي الغربي السعودي والتابعين له في لبنان، انعكست على الساحة اللبنانية بمزيد من تخبّط وإفلاس سياسات قوى 14 آذار، في الرهان على تبدّل الموازين الإقليمية والدولية، لمصلحتها للاستقواء بها في الداخل اللبناني بما يمكنها من استعادة زمام المبادرة والانتقال مجدّداً إلى الهجوم والعودة إلى فرض هيمنتها على كلّ مفاصل الدولة والمجيء بمرشحها لرئاسة الجمهورية، واستئناف هجومها على المقاومة لنزع سلاحها.

لكن الرياح لم تأت كما تشتهي سفن 14 آذار. فالموازين تبدّلت في مصلحة محور قوى المقاومة وحلفائه، في حين بدأت المعادلة الدولية تتغيّر وتتهاوى معها الهيمنة الأميركية على القرار الدولي. ولهذا لم يعد إبقاء ملف التسوية للأزمة اللبنانية مجمّداً في مصلحة الحلف الأميركي السعودي ومرتكزه الأساسي في لبنان تيار النائب سعد الحريري، الذي بات، مع كلّ يوم يستمرّ فيه خارج السلطة، يخسر المزيد من رصيده السياسي والشعبي، وتتفاقم أزمة تياره الداخلية، الذي يعاني من حالة انقسام وتشظ وتمرّد على قرار الحريري.

ولهذا فإنّ قرار الحريري تبني ترشيح العماد عون، كان قراراً سعودياً أميركياً أولاً وأخيراً، وهو قرار اضطراري لإنقاذ الحريري وتعويم تياره والحدّ من أزماته وخسائره قبل إجراء الانتخابات النيابية. هذا القرار الأميركي السعودي لم يعلن عنه رسمياً لأنّ الموافقة العلنية من قبل واشنطن والرياض على تبنّي انتخاب العماد عون كان سيشكل إقراراً بالفشل والخسارة. فالمعروف للقاصي والداني أنّ العماد عون حليف لحزب الله، ووقف إلى جانب المقاومة في حرب تموز، ورفض كلّ الضغوط والتهديدات الأميركية للتخلي عن دعمه للمقاومة، وكذلك تصالح مع سورية بعد انسحاب جيشها من لبنان، وزار سورية واجتمع مع الرئيس بشار الأسد، واتخذ مواقف منحازة إلى جانب الدولة السورية في مجابهتها للحرب الإرهابية التكفيرية التي تشنّ عليها، ولهذا كله ما كان بمقدور واشنطن والرياض التصريح علناً بموافقتهما، لكنهما تركتا الأمر للنائب الحريري ليعلن ذلك وكأنه خياره وقراره هو.

أما الرهان من قبل بعض من صدمهم ترشيح العماد عون بأنّ أميركا والسعودية سوف تعملان في اللحظة الأخيرة على إعطاء كلمة سرّ لنواب 14 آذار لعدم التصويت للعماد عون وتطيير النصاب في الدورة الثانية، فإنّ ذلك يعني دفع لبنان إلى التوتر والتأزّم، وهو أمر لا يصبّ في الرياض وواشنطن، لأنّ تعطيل انتخاب العماد عون سيعني تعطيل التسوية وعدم عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، وبالتالي ضياع فرصة تعويم نفوذهما في السلطة قبل أن تؤدّي التحوّلات الحاصلة في موازين القوى إقليمياً ودولياً ومحليا في عير مصلحتهما، إلى خسائر أكبر للقوى التابعة لهما في لبنان.

من هنا لا يبدو في الأفق المنظور ما يشي بأنّ جلسة الانتخاب سوف تشهد انقلاباً على التسوية، بل أنّ التعجيل بإنجاز التسوية بانتخاب العماد عون، ومن ثم تسمية النائب الحريري لتشكيل الحكومة، هو مصلحة أميركية سعودية حريرية، فيما وصول العماد عون الى سدة الرئاسة يشكل انتصاراً للتيار الوطني وحلفائه جاء ثمرة موازين القوى الإقليمية والدولية والمحلية التي باتت في مصلحة محور المقاومة في المنطقة ولبنان.