لم تنجح معركة تحرير ​مدينة الموصل​ العراقية في حجب الأنظار عن الصراع القائم حول الشمال السوري، حيث يحتدم التنافس، الذي تتداخل فيه عوامل كثيرة، بين العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين، إنطلاقاً من سعي مختلف الأفرقاء إلى حجز موقع لهم في المعادلة الجديدة، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، التي تقود إلى السيطرة على المدن والبلدات التي يحتلها تنظيم "داعش" في الوقت الراهن.

منذ أشهر طويلة، لم تكن الحرب على التنظيمات المتطرفة إلا صورة للتنافس حول وراثتها، الأمر الذي يتأكد من التجاذب السياسي حول معركة الموصل، ف​الولايات المتحدة​ تريد عبرها العودة للإمساك بزمام الأمور على الساحة العراقية، في حين أن تركيا تسعى لإعادة أمجاد السلطنة العثمانية السابقة، في وقت تريد إيران تثبيت نفوذها في "بلاد الرافدين" أكثر، وهذا الأمر لا ينفصل عن الصراع بين الأفرقاء المحليين المنخرطين ضمن المشاريع الإقليمية والدولية الكبرى، فالمعادلة واضحة منذ ما قبل إنطلاق المعركة: نتيجتها سترسم مستقبل العراق السياسي.

بالتزامن يأتي التنافس حول الشمال السوري، حيث الصراع الأساسي اليوم يتعلق بمدينتي الباب والرقة، بعد أن تجاهلت موسكو كل الضغوط الدبلوماسية التي فرضت عليها لوقف معركة تحرير الأحياء الشرقية من مدينة حلب، في مشهد شبيه بحال الموصل إلى حد بعيد، لكن يختلف معه في تعدد اللاعبين، لا سيما على المستوى الدولي، فعلى الأراضي السورية هناك موسكو التي لن تذهب إلى تقديم أي تنازل من دون مقابل، وهي تضع بنفسها الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال، إلا أن نتيجة هذه المعركة سترسم من دون أدنى شك مستقبل سوريا السياسي أيضاً.

إنطلاقاً من ذلك، يمكن فهم التجاذب التركي-السوري حول معركة ​مدينة الباب​ المقبلة، بعد أن تراجعت حظوظ "قوات سوريا الديمقراطية" نتيجة الموقف الأميركي، ففي حين تعلن أنقرة يومياً عن رغبتها بالذهاب إلى هذه المواجهة مع "داعش"، أصدرت دمشق خلال أيام قليلة تحذيرات متعددة، وصلت إلى حد إستهداف فصائل من "الجيش السوري الحر" متحالفة مع تركيا، بعد أن كانت قد مهدت لذلك عبر وصفها بالمحتلة والتهديد بالتعامل معها بحزم وقوة، الأمر الذي قد يقود إلى تنافس بين الجانبين على الوصول إلى المدينة، ربما يقود إلى الصدام بينهما بطريقة أو بأخرى، بالرغم من سعي أنقرة إلى الإستفادة من عودة علاقاتها مع موسكو إلى سابق عهدها لتجاوز هكذا "مطبات"، إلا أن ​روسيا​ نفسها لن تسمح بتخطّي الإتفاقات السابقة بينهما، مع العلم أن الجانب التركي لم يطبق التعهد السابق باخلاء أحياء حلب الشرقية من عناصر "جبهة فتح الشام".

ما تقدم بالنسبة إلى الباب، لا يلغي الصراع الأكبر حول ​مدينة الرقة​، العاصمة الثانية لـ"داعش"، التي تتعامل معها الولايات المتحدة على أساس أنها من مناطق نفوذها الخاصة، وتحدد من يحق له المشاركة في عملياتها العسكرية، إنطلاقاً من القاعدة السابقة بإدارتها من قبل القوى التي تتولى التحرير. وفي حين عمد عدد من المسؤولين الأميركيين إلى الحديث عن إقتراب موعد إنطلاق هذه المعركة، خلال أسابيع بحسب ما أعلن وزير الدفاع آشتون كارتر، تصطدم واشنطن اليوم بموقف حلفائها أولاً، أي الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ وقوات "حماية الشعب الكردي"، حيث يبدي الأول إستعداده للذهاب نحو الرقة بعد الإنتهاء من الباب ومنبج، ويدعو إلى إستبعاد قوات "سوريا الديمقراطية"، لا بل يخير الولايات المتحدة بين التحالف معها أو معه، ويؤكد الجيش الأميركي على دور الأكراد في العملية العسكرية المتوقعة التي يراد من خلالها عزل عناصر "داعش" في معقلهم السوري، ويعتبر أن من الضروري مشاركتها في هذه المواجهة.

على هذا الصعيد، يأتي السؤال عن مواقف كل من سوريا وروسيا وإيران من هذا التطور، أي إبعادهم عن مسرح العمليات العسكرية المتعلق بتحرير مدينة الرقة، والذي يعيد إلى الأذهان الغارات التي نفذتها الطائرات الأميركية ضد مواقع الجيش السوري في مدينة دير الزور، والتي كان من الممكن أن تقود إلى طرد قواته من هذه المدينة، على ضوء الهجوم الذي كان يقوم به "داعش" في الوقت نفسه، فهل ترضى بهذا الواقع أم تعمد إلى التصدي له بغض النظر عن التداعيات التي ستترتب على مثل هذا السيناريو؟.

في المحصلة، يحتدم الصراع في الوقت الراهن على وراثة "داعش" في الأراضي السورية والعراقية، مع تداخل غير مسبوق في المشاريع والمصالح الإقليمية والدولية، من دون معرفة المدى الذي قد يأخذه في المرحلة المقبلة.