لم يأت القرار الصادر عن بعض دول اعضاء حلف شمال الاطلسي "​الناتو​" بارسال تعزيزات عسكرية الى دول اوروبا الشرقية السابقة من فراغ. ففيما وصف بأنه اكبر حشد عسكري للناتو في اوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة، تعهد وزراء دفاع بريطانيا والولايات المتحدة والمانيا وكندا وغيرها من الدول... ارسال معدات عسكرية جوية وبرية اضافة الى آلاف الجنود لمواجهة ​روسيا​ اذا ما اقتضى الامر.

صحيح ان روسيا ارسلت سفينتين حربيتين مهمتين الى حدود دول البلطيق(1)، ولكن الرد الغربي عليها، وعلى الرغم من فاعليته المعنوية لا يرقى الى المستوى المطلوب لردعها في حال حصول اي مواجهة عسكرية، والاتكال فقط بالنسبة الى دول "الناتو" هو على سرعة التدخل لقوى خاصة.

لا احد يعرف مسبقاً نتيجة اي مواجهة عسكرية قد تندلع، ولكن عرض القوة الذي يحصل له نقاطه ايضاً ويؤثر فعلاً على مجرى التطورات وكيفية النظر الى الامور من وجهة نظر كل من الطرفين. وأهميّة هذا الامر تكمن في ان هذا العرض قد يؤدي ربّما الى الفوز بالمواجهة حتى دون خوضها، وهذا ما يعتمد عليه "الناتو" في الدرجة الاولى.

عرض الصواريخ الروسية والترسانة البحرية والتحركات المتواصلة عسكرياً على الجبهة الأوروبية، إضافة الى القوة المتينة التي أظهرها الروس في الشرق الاوسط، اعطت على ما يبدو ثمارها، لكنها شكّلت حافزاً للاوروبيين لمحاولة التضامن والوحدة بعد ان شعروا ان مصيرهم بات على المحك، في ظل "استرخاء" اميركي لم يعهدوه سابقاً. من هنا، يمكن فهم الرسالة التي أراد وزراء الدفاع في دول الحلف الاطلسي إرسالها عبر تأكيدهم الاستعداد للانتشار العسكري مع تأمين اعداد اضافية اذا ما لزم الامر، والدعم الذي قدمته اميركا في هذا المجال ايضاً. انها رسالة لروسيا رداً على الرسالة التي ارسلتها موسكو في الآونة الاخيرة، وقوامها ان اي مواجهة تقليدية قد تسيطر فيها روسيا في الفترة الاولى، ولكن على المدى البعيد لن يكون بمقدورها الانتصار امام دول موحدة ووفق امكانات عسكرية وتكنولوجية واقتصادية أعلى من تلك التي يتمتع بها الروس.

في الجو والبحر والبر، ستكون المواجهة مؤلمة للطرفين، وستكون أشد ايلاماً لـ"الناتو" على المدى القريب ولروسيا على المدى الأبعد، وهذا ربما ما قد يجرّ الأمور الى منحى أخطر بكثير وهو الانتقال الى المواجهة غير التقليدية.

هنا، يعتبر الكثيرون ان الموضوع لن يصل الى هذا الحد، لان الاعتماد على ضربات نوويّة ولو محددة النطاق والأهداف، ستكون كاللعب في النار ولا يمكن لأحد ان يتكهّن كيفيّة انتشارها ومقدار الضرر الذي ستلحقه. لذلك، واضافة الى التغيير الكبير الذي سيطرأ على المشهد العالمي إذا ما وصلت الامور الى هذا الحد، يستبعد معظم المحللين والمتابعين ان يتم اللجوء الى هذا السيناريو، لأنّ اضراره اكبر بكثير من مكاسبه والجميع سيخرج منه خاسراً حتماً.

عملياً، تبقى رسائل عرض القوّة هي الأكثر فعالية في هذا الوقت، وقد تحمل معها اجوبة على عدد كبير من الاسئلة والقلق الذي يعتري الروس كما الاوروبيين والاميركيين على حد سواء. ويرغب الاوروبيون في ايصال صوتهم لروسيا وطمأنتها، وذلك من خلال مناداة بعض أهم قادة القارة الاوروبية بتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع موسكو، في مقابل اعتبارهم أن تهديد وجودهم هو بمثابة خط احمر لا يمكن لأحد التغاضي عنه، وانّ اللعب في باحة بيتهم الاوروبي لا يمكن له الاستمرار دون رادع، وانه على الرغم من كل المشاكل التي تعاني منها القارة العجوز، تبقى قادرة على الدفاع عن نفسها.

هي باختصار لعبة "الرقص على حافة الهاوية الاوروبية"، وليس بمقدور روسيا او اوروبا واميركا الدخول في مواجهة عسكرية شامة لايصال رسالة، فالاضرار ستكون اكبر من أيّ موقف يرغب أيّ منهما في اتخاذه وايصاله.

(1) تضم دول البلطيق: استونيا ولاتفيا وليتوانيا.