عبارة لم أخل يوما أنني سأستعملها لمخاطبتكم أنا الذي انتمي الى ما سمي "جيل عون"، هذه الفئة الشبابية التي اكتسبت ثقافة وطنية ووعيًا سياسيًا في أواخر الثمانينيات نتيجة "النفضة" التي قمتم بها ابان تسلمكم رئاسة الحكومة. هؤلاء الشباب ناضلوا – والبعض لا يزال- تارة في صفوف التيار الوطني الحر وطورا خارجه، ولكنّهم كلهم امنوا بلبنان الحرية والسيادة والاستقلال واعتبروكم تجسيدا لهذه المبادئ. فمن الصعب قبول ترسيم حدود بين من كرس نفسه لقضية معينة وبين من اعتبر يوما ما ملهم القضية.

ولكن للظروف أحكام واليوم تتبوأون أعلى منصب دستوري في الجمهورية، ولذا وجب عليّ وعلى الجميع احترام هذا الواقع الجديد والاستفادة منه لطرح بعض الأمور الأساسية التي سوف تحدد مستقبل لبنان ومستقبل الإرث السياسي الذي سيترك لجيل عون. البعض لا يصدق أن المعنويات بين عامي 1990 و2005 كانت بأفضل حال عما هي عليه اليوم. والسبب أن هذه الفترة من النضال اتسمت بتحديد واضح للقضية ومسار جلي لما هو الحل، الا و هو فك أسر لبنان من الوصاية السورية. ولو أن هذه الوصاية كانت عائقا أساسيا أمام قيامة لبنان بعد حروب دامية، الا أننا لم نقدر أهمية أسباب التحلل الأخرى في مجتمعنا وأهمها انزلاق سلم القيم المجتمعية الى مناح تتسم بالوصولية، القبول بالفساد اذا أفاد الذات وانتقاده عند افادة الغير، القبول بالعنف كوسيلة مشروعة لحل النزاعات وغيرها من الانحرافات القيمية. ولعلّ من أهم ما قلتموه لمناصري التيار هو أن معركة التحرر أصعب من معركة التحرير. فحبذا لو يكون عنوان العهد الأول هو التحرر من القيم المجتمعية التي تتنافى مع رسالة لبنان الأساسية وهي الحرية. فينعم لبنان بعهد رئاسي نرى فيه الحريات مصانة بالفعل وليس بالقول فقط والمعارضين السياسيين يتمتعون بحيز التحرك لتصحيح مسار الحكم دون خجل أو خوف ويكون الاختلاف – على أشكاله- محل تقدير و ليس سببا للقدح و الذم. كما اتمنى أن تفرضوا هيبتكم المعروفة على العسكر من أجل أن يعوا امكانية تأدية دورهم المقدس بحماية لبنان دون التعرض لكرامة اللبنانيين وخاصة من منهم مشتبه به أو حتى متهم بجريمة. وفي اطار حماية الحقوق والحريات، لا بدّ من اعتماد مقاربة جديدة لدور الدولة في حفظ النظام العام: مقاربة تحول الدولة من دور الرقيب الى دور الناظم، وانا متأكد من اطلاعكم الواسع على الفرق بين المقاربتين.

إنّ ايلاء تحصين وحماية الحريات في لبنان اهتماما خاصا ليس ترفا، اذ أن موضوع التعددية والحريات هو في صلب رسالة لبنان في المنطقة. لن يتمكن لبنان من التميز في محيطه الا من خلال نظام اجتماعي وسياسي وقضائي يكرس حماية التعددية والحريات قولا و فعلا ضمن اطار منظومة نظرية تتماهى مع ارث شارل مالك لناحية اعتبار الكرامة والضمير أغلى ما يمتلكه الشخص الانساني، وأن طرح هذا الموضوع في هذا التوقيت تحديدا يأتي نتيجة خيبة أمل في الأعوام العشرة الأخيرة بسبب تنصل قيادات التيار الوطني الحر من قضية حقوق الانسان والحريات. الأسوأ أن البعض من القياديين برر ابشع الانتهاكات أو حتى حرض عليها وعلى المدافعين عنها فبدا وكأن التيار استعمل راية وبعض منظمات حقوق الانسان كأداة تشهير بسلطة الوصاية قبل عام 2005 ولكنه لم يعر لها أي اهتمام بمجرد أن وصل الى الحكم – و لو جزئيا. لذا يجب تصحيح المسار واعادة الاعتبار لقضية مبادئ وقيم وليس لأداة تنتهي صلاحيتها عند الوصول الى الحكم.

اما في الجانب السياسي العام، فهذا العهد هو أيضا الفرصة الأخيرة لانتاج صيغة حوكمة جديدة للبنان والا الاستمرار بحالة التفكك المزمن الذي سوف يؤدي الى انفجار حينما تسمح الظروف الاقليمية بذلك. فباختصار القوى السنية اللبنانية تلعب اليوم آخر ورقة "لبنانية" واذا لم تحصل من خلالها على ضمانات تتعلق بحمايتها من فائض القوة الشيعية، فلن يبقى لهم الا البحر أو التطرف (ولاحقا اللجوء الى الارهاب). أما القوى السياسية الشيعية وبالرغم من انها الوحيدة التي تتمتع بامكانات عسكرية متقدمة وجاهزة الا انها رأت في تفاهمكم مع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عودة الى ثنائية سنية مسيحية على ظهر الشيعي فثارت ثورتها علنا عبر موقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري وضمنا عبر قبة باط حزب الله لحليفه الشيعي. اما على المستوى الدرزي فحدث ولا حرج عن الاحباط المتأتي عن التآكل الديمغرافي وصدمة أيار 2008 التي لم يبلعها بعد وأخيرا الهواجس التي تسبب بها تقاربكم مع القوات اللبنانية بالاضافة الى اخفاق الجهود الاقليمية لاطاحة النظام الأسدي في سوريا.

تظهر تطورات الأشهر الأخيرة – و لا سيما الميني 6 شباط التي قام بها بري مع بعض الحلفاء المعلنين والمتخفين في الأسابيع الماضية- أن الهواجس التي تسببت بحرب 1975 لا تزال تقريبا على حالها (مع تعديلات طفيفة).

في عام 1982 كاد يكون انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيسا فرصة لأن يدفع المسيحيون باتجاه صيغة جديدة للبنان تقوم على الحوكمة المحلية، المسماة لا مركزية أو فيديرالية. التسمية لا تهم طالما الجوهر هو أن تتم اعادة النظر بتقسيمات لبنان الادارية واعتماد الدوائر الجديدة كقاعدة لانشاء أطر حوكمة محلية ومؤسسات منتخبة محليا تكون خاضعة لمساءلة من المجتمع نفسه الذي انتخبها. هذه الصيغة كفيلة أولا بتجديد الطبقة السياسية وبتعزيز مبدأ المساءلة، كما و بتبديد جزء كبير من هواجس الهيمنة من طرف ضد طرف. لكن خيار بشير الجميل كان – على الأقل ما بان في الأيام الأولى بعد انتخابه- العودة الى دولة مركزية قوية ووضع مشروع الفدرالية في الدرج. و اكمل الرئيس السابق أمين الجميل في نفس المسار لدى انتخابه ابان اغتيال أخيه.

في العام 1989، وجدت في لبنان حكومتان (بغض النظر عن شرعية كل منهما) واعتاد اللبنانيون على فكرة حكومتين كما وتاقلم المجتمع الدولي مع الفكرة، فكان يزور معظم السفراء مقري الحكومتين دون خجل او احراج. كما طورت الادارات اليات عمل للتعامل مع واقع الحكومتين، فكنا على قاب قوسين من تكريس مبدأ اللامركزية سياسيا ودستوريا الا انكم فضلتم خيار الدولة المركزية القوية وقتها وخضتم مواجهات سياسية وعسكرية من أجل ما امنتم – وامن الكثير من اللبنانيين و منهم أنا- به. ربما فكرة اللامركزية الشاملة لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية بين 1982 و1989، وربما الظروف في المنطقة لم تكن مشجّعة على هكذا صيغة للبنان. أما اليوم فالفرصة موجودة بقوة اذ أن غالبية اللبنانيين أبدوا حماسة ومشاركة كبيرتين في استحقاقات محلية مقارنة بالاستحقاقات الوطنية كما وأنّ التطورات في المنطقة ككل تتجه صوب انظمة حكم محلية تتمتع بصلاحيات واسعة مع ترك بعض الأمور الأساسية فقط في يد الحكومات المركزية.

لبنان يقف اليوم على مفترق طرق، فاما أن يتعلم من دروس الماضي او أن يغمر رأسه بالتراب كالنعامة. التقارب بين التيار و القوات معطوفا على انواع الاحباط العديدة لدى السنة و الدروز و الشيعة و الجو الاقليمي تجعل من عهد فخامتكم فرصة ربما تكون الأخيرة لاقرار اطار قانوني واداري يكرس وينظم الحوكمة المحلية الواسعة الصلاحيات والخاضعة للمساءلة المحلية.

فباختصار للعهد الجديد عنوانان: الحريات واللامركزية. والا سوف تكونون الرئيس الثالث عشر والأخير لجمهورية لبنان.