في ظلّ إستمرار تعثّر تشكيل حكومة سعد الحريري، إزداد الحديث عن خلافات بين قوى "​8 آذار​"، و"حزب الله" من خلفها من جهة، و"التيار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى، كأحد أبرز أسباب الفشل في عمليّة التأليف حتى اليوم، إضافة إلى بعض التفاصيل الصغيرة الأخرى المتفرّقة. فهل فعلاً علاقة الود والثقة بين "التيار" و"الحزب" بدأت بالتراجع لصالح تقدّم الخلافات بينهما؟

التصاريح العلنيّة للطرفين المعنيّين تنفي وجود أيّ خلافات، وتؤكّد إستمرار التواصل المُباشر بعيدًا عن الإعلام بين مسؤولي "التيار" و"الحزب". وهذا الأمر صحيح، ولكنّه لا ينفي وُجود عمليّة شدّ حبال مُتبادلة إنطلاقًا من ثوابت إستراتيجيّة للطرفين. وإذا كان صحيحًا أنّ رئيس الجمهورية المُنتخب العماد ميشال عون، و"التيار الوطني الحُر" مُتمسّكان بشكل كامل بثابتتين أساسيّتين، سبق وأن توافقا عليهما مع "حزب الله"، وهما العداء المُطلق لإسرائيل والوقوف حتى النهاية إلى جانب "الحزب" ضُد أيّ إعتداء إسرائيلي قد يتعرّض له، وكذلك العداء التام والوقوف في موقع الخصم لكل الجماعات التكفيريّة المسلّحة التي تُحاول فرض سيطرتها الميدانية في سوريا وسواها من الدول العربيّة، على حساب وجود الأقليّات المختلفة ومن بينها الأقليّة المسيحيّة في هذا الشرق، فإنّ الأصحّ أنّ تحوّلات طرأت على الساحة الداخليّة اللبنانية منذ نحو سنة حتى اليوم، أدّت إلى تغييرات مُهمّة لم تستوعبها بعض الأطراف السياسيّة، ولم تتقبّلها أطراف سياسيّة أخرى، ما أسفر عن ظهور خلافات وتباينات عدّة، هذه أبرزها:

أوّلاً: إنّ إنتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة جعله تلقائيًا في موقع وسطي إزاء كل الأطراف الداخليّة، وهو موقع لم يكن فيه سابقًا، حيث كان يُعتبر حليفًا لقوى "8 آذار" وخصمًا لقوى "14 آذار". وبالتالي من اليوم فصاعدًا، من المُتوقّع أن لا يتخذ رئيس الجمهورية مواقف مُنحازة لأيّ طرف، بل سيتصرّف من موقع وسطي عادل ومُنصف، إنطلاقًا من الدستور ومن الثوابت الوطنيّة السياديّة والإستقلاليّة والحريصة على تمتين علاقات لبنان مع مختلف الدول العربيّة والعالميّة. ومُجرّد حُصول هذا الأمر يُسقط تلقائيًا حديث البعض عن "إنتصار لخط سياسي" وما هناك من تعابير إعلاميّة غير مُترجمة على أرض الواقع.

ثانيًا: إنّ إنتخاب العماد عون تمّ نتيجة ثلاثة ركائز داخليّة تُضاف إلى تشبّث "التيّار" بحق الرئاسة للممثّل الأقوى للمسيحيّين، هي ركيزة "حزب الله" الذي ساند "الجنرال" وساهم معه في إفشال جلسات النصاب بغضّ النظر عن مدى دُستورية هذه الخطوة، ثم ركيزة "القوات اللبنانيّة" التي ساهمت في منح "الجنرال" غطاء مسيحيًا نيابيًا وشعبيًا واسعًا، وركيزة "تيار المُستقبل" الذي ساهم في طيّ صفحة الإنقسام العمودي بين قوى "8 و14 آذار" السابقة، وأمّن غطاء سنّيًا نيابيًا وشعبيًا للعماد عون، أضيف إلى الغطاءين المسيحي والشيعي. وبذلك، صار "الجنرال" مدينًا برئاسته إلى "حزب الله" بطبيعة الحال، ولكن أيضًا لكل من "القوات" و"المُستقبل"، الأمر الذي أثار حفيظة قوى "8 آذار" ومن خلفها "الحزب".

ثالثًا: إنّ التفاهمات التي نُسجت بين "التيار الوطني الحُرّ" و"القوات اللبنانيّة" تتخطّى مسألة إنتخاب العماد عون رئيسًا في مُقابل إشراك "القوات" بفعالية في الحكم إلى جانب "التيّار"، وتشمل تعهّدات إستراتيجية لجهة أن يتآزر كل من "التيار" و"القوات" من اليوم فصاعدًا بكامل ثقلهما، منعًا لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في ما يخصّ حقوق الطائفة المسيحيّة. وبالتالي إنّ مُحاولات التفريق بين "التيار" و"القوات" ستُواجه، لأنّ الطرفين أدركا أنّ خلافاهما وتباعدهما أضعف المسيحيّين وجعلهما في موقع ثانوي ومُهمّش. كما أنّ الطرفين مُتفقان على ضرورة إستعادة كامل حُقوق الطائفة المسيحيّة، وفي طليعتها صلاحيات رئيس الجمهورية وسُلطاته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موقع قيادة الجيش وغيره من المواقع القيادية المُخصّصة للمسيحيّين بحسب الدستور أو العرف. وهذا التفاهم الإستراتيجي بين "التيار" و"القوات" كفيل وحده بإثارة "النقزة" لدى قوى "8 آذار" و"حزب الله" أيضًا، لأنّ ترجمته الميدانية تتجاوز شعار "أوعا خيّك" المعنوي، وتتمثّل في التحالف خلال الإنتخابات النيابيّة المقبلة.

رابعًا: إنّ المعركة الحكومية الحالية ليست على منصب وزاري هنا أو على حقيبة هناك، بل على تموضع سياسي وعلى أحجام سياسيّة يخشى "حزب الله" أن تتبدّل، أو أقلّه أن تتأثّر، في حال نجاح "القوات اللبنانيّة" في خوض الإنتخابات النيابيّة المُقبلة بالتكافل والتضامن مع "التيار"، والأخطر في حال نجاح "القوات" أيضًا في نسج تحالف إنتخابي ثلاثي يضم كلا من "التيار الوطني الحُر" و"القوات" و"المُستقبل" ولو ضمن دوائر مُحدّدة وليس على كامل مساحة الوطن.

خامسًا: الحديث عن مُحاولات لجرّ "الجنرال" والتيار الوطني الحُر" لتحالفات لم تكن قائمة قبل عقد من الزمن، ليس دقيقًا، ويتناسى أنّ العماد عون هو الذي أطلق "حرب التحرير" ضد جيش الإحتلال السوري في نهاية الثمانينات، وهو الذي ساهم بشكل رئيس في صدور القرار رقم 1559 عن مجلس الأمن الدَولي في 2 أيلول 2004، وهو الذي نزل مُناصروه بكثافة لإنجاح تظاهرة 14 آذار سنة 2005 ردًا على تظاهرة "حزب الله" ومؤيّدي النظام السوري قبل أسبوع من ذلك، مع التذكير أنّ الإنعطافة التي قام بها العماد عون بعد ذلك جاءت نتيجة تعرّضه للتحجيم ولمحاولة حصار من قبل قوى داخليّة مسيحيّة وسنّية ودرزيّة مختلفة، الأمر الذي دفعه إلى نسج علاقات ثنائيّة مع قوى أخرى وفي طليعتها "حزب الله" حفاظًا على حُضوره، وكذلك نتيجة رغبة "الجنرال" في عدم معاداة أي طرف لبناني بشكل مجاني، والعمل على جمع مختلف الأطراف السياسيّة.

في الختام، إنّ تفاهمات الرئيس عون و"التيار البرتقالي" مع "حزب الله" محفوظة وسارية المفعول بشكل حاسم، لكنّ أحدًا لا يحق له أن يمنع العماد عون أو "تياره" من نسج تفاهمات جديدة، خاصة إذا كان هدفها إسترجاع الحقوق المسيحيّة المسلوبة كما هي الحال بالنسبة إلى التفاهم مع "القوات"، أو إرساء كل ما يلزم لتوافق وطني عابر للطوائف كما هي الحال بالنسبة إلى التفاهم مع "المُستقبل". وبالتالي، إنّ التحالفات السياسيّة ليست جامدة، وهي تتبدّل وفقًا للظروف والمعطيات المحلّية والإقليميّة والدَولية، و"التيار الوطني الحُر" ليس حكرًا على طرف دون سواه. وطالما تُوجد "نقاط مُشركة" بين طرفين سياسيّين، فمن حقّهما أن يتحالفا من دون التنكّر لأيّ "نقاط مُشتركة" ناجمة من تحالفات سابقة.