نتأمَّل، في هذا الأحد المبارك، بالحدث المعجزة الذي يبيِّن أنَّ ليس عند الله أمر مستحيل، كما يُظهر التدخّل المباشر لله الآب الضابط الكلّ في تاريخ البشر، الذي هو تاريخ خلاص، ونقف عند ما يلي:

1- الله المبدع الخالق:

من يتأمَّل تاريخ الخلاص أو تاريخ الله بالوجود، ما يُرى وما لا يُرى، يعرف أنَّ قدرة الله المطلقة اللامحدودة لا تقف صعوبة أمامها، فهو الذي خلق من العدم كلَّ الوجود ووضع فيه نظامًا عامًّا يسمح للعقل البشري بأن يرى ويتأمَّل ويستقرئ ويستنتج، ووضع أيضًا سنّة طبيعيَّة للتوالد والتكاثر عند النبات والحيوان والانسان، وهو عندما خلق في البدء ذكرًا وأنثى وأمرهما بالتوالد لكي يملأا الأرض بالبنين، أخضع هذه المسألة لنظام ثابت لا يمكن خرقه. ومن الصعوبات التي تقف حائلاً دون دخول هذا النظام، العجز والشيخوخة والعقم، غير أنَّ الله الضابط الكلّ، سيِّد هذا النظام وواضعه، قادر على خرقه وإزالة كلِّ صعوبة من درب تطبيقه وإكماله ليصل إلى غايته.

هكذا صنع مع العجوز زكريَّا والعاقر أليصابات وجعلهما يستعيدان شيئًا ممَّا وضعه الله أصلاً في الإنسان، فتمكَّنا بنعمته وحبّه من إعطاء ولد إلى الوجود بعد طول انتظار وصلاة وصبر وعدم اليأس ومحبَّة الله، ناهيك عن أنَّ يوحنَّا سيكون إبن الوعد وليس إبن الإرادة البشريَّة فحسب.

2- يوحنَّا السابق

أخذ يوحنَّا لقب "السابق" لأنَّ التقليد اليهودي يعلّم أنَّ النبي إيليَّا الحيّ سيعود إلى الأرض، قبل مجيء المسيح، ليحارب المسيح الدجال ويمهِّد الطريق أمام المسيح الملك المنتظر، لذلك حين سأل المسيح تلاميذه عمَّا يقولون عنه وهل عرفوه أم لا، قال الرسل: "بعض يقول إيليَّا، وبعض إرميا أو أحد الأنبياء"، لأنَّ الناس رأوا الأعمال التي يعملها وكلُّها من علامات مجيء المسيح، لكنَّهم اعتقدوه ذلك النبي الذي سيمهد الطريق للمسيح ولم يتثبتوا ولم يؤمنوا أنَّه هو المسيح، كما أنَّهم لم ينتبهوا، لانشغالهم بأمور هذا العالم، أنَّ يوحنَّا بالذات هو ذاك النبي الذي ينتظرونه قبل مجيء المسيح حين ردّ على سؤالهم: نحن نعلم أنَّ إيليَّا سيأتي ويسبق مجيء المسيح وقال: "لقد جاء إيليَّا وفعلتم به ما فعلتم"، وكان يقصد يوحنَّا المعمدان.

3- لا يدعى زكريَّا بل يدعى يوحنَّا

جرت العادة، كما هي اليوم، أن يُسمَّى الإبن البكر باسم أبيه أو جدِّه، لذلك رأى الناس أن يُسمَّى المولود من أليصابات زكريَّا على اسم والده. إنَّها إرادة الناس والتقاليد وما يتوافق عليه أهل الرأي، لكنَّ الله الذي أمر بأن يُسمَّى المولود يوحنَّا، غيّر هذا التقليد ليبيِّن أنَّ المشروع الإلهي لا يقرِّره البشر، وإن كان لهم دور أساسي فيه، تمامًا كما حصل مع ابراهيم حين خلّف اسماعيل من الجارية هاجر بينما كان وعد الله له أن يخلِّف من سارة الحرّة ليقيم نسلا. هذا ولإسم يوحنَّا دلالة على أنَّ الله تحنَّن على شعبه وافتقدهم بنبيّ.

الفرق بين اسماعيل واسحق أو إبن الأمة وابن الحرَّة، كما يقول الرسول بولس، هو أنَّ الأوَّل مشروع بشري قرَّرته إرادة الإنسان وتدبيره، وإن كانت النيَّة تحقيق مشروع الله، بينما اسحق هو مشروع إلهي يتوسَّل الوسائل البشريَّة. وما عَجْزُ سارة وعقمها اللذان تجاوزهما الحدث، إلاَّ برهان على أنَّ لا شيء مستحيل عند الله وأنَّ هذه الولادة، كما ولادة يوحنَّا، دليل واضح على تدخُّل الله في أمر معيّن هو ثابت لا يستطيع البشر أن يعبثوا به، ولو عن حسن نيَّة، كما يعني أنَّ كلَّ مسيحي هو ابن الوعد بالمعموديَّة وليس ابن الجسد الترابي بالتزاوج فحسب.

4- ماذا عساه يكون هذا الصبي؟

تساءل الناس حين سمعوا بولادة يوحنَّا وإعطائه هذا الإسم بالطريقة التي ذكرها الإنجيل: "ماذا عساه يكون هذا الصبي؟". لقد لمسوا أنَّ في الأمر أكثر من ولادة صبي، ولمسوا تدخُّل الله وعبّروا عن هذا التدخُّل بقولهم: "يد الله كانت معه"، هذا يعني أنَّ شيئًا سيحصل وأنَّ الله أرسل يوحنَّا بالذات، من زكريَّا العجوز وأليصابات العاقر، لينفِّذ إرادة الله على الأرض. أرسله ليكون يده وإرادته بين الناس، تمامًا كما كان يفعل بالأنبياء من قبله. هكذا فعل مع ابراهيم وموسى وإيليَّا وأشعياوإرميا وسواهم. هذا الصبي سيكون أداة بيد الله ليمهِّد لمجيء المسيح. هكذا كان، فقد عبّر يوحنَّا عن رسالته بكلامه وفعله: "أنا أُرسلت لأعدَّ طريقًا للربّ، توبوا فقد اقترب ملكوت السموات"، إنَّه السابق. الخطير في الأمر أنَّ الله، بعدما وضع الشريعة لتمهِّد لمجيء المسيح، رأى هنا أن يرسل شخصًا بشريًّا، على الرغم من وجود الشريعة، ليعيد إلى الأذهان فكرة الخلاص. ألا يعني هذا أنَّ الذين كانوا قيِّمين على الشريعة قد أساؤوا التصرُّف حتى جعلوا الناس ينفرون من الشريعة بالذات ولا يعتبرونها مصدر خلاص؟

5- يوحنَّا يشرح دوره

رسم الله ليوحنَّا دورًا منذ كان في حشا أمِّه ورعاه ليقوم بهذا الدور، ألا وهو تمهيد الطريق أمام المسيح الآتي ليعيد إلى الطبع البشري بهاءه الأوَّل ويحقِّق عدل الله وحبَّه ورحمته ووعده بالخلاص. وعندما امتلأ يوحنَّا من الروح القدس، وهو بعد في حشا أمِّه، قبل هذا الدور، ولمَّا كبر تأمَّل في ما أوكل الله إليه، فقبله مختارًا حرًّا لأنَّه رأى أنَّ الخير لا يكون إلا بفعل إرادة الله التي لا تريد للإنسان إلاَّ سعادته وفرحه، على الرغم من المظاهر التي تدلّ على الظلم والحزن والحرمان والقهر. هكذا نحن، إذا أردنا أن نسعى إلى العدل وتحقيق ما هو لخيرنا، علينا أنَّ نسير بحسب مشيئة الله ولو أدَّى ذلك إلى صعوبات كبيرة وخطيرة تصل أحيانًا إلى قطع الرأس شهادة للحقّ.

ظنَّ يهود كثر أنّ يوحنَّا هو المسيح المنتظر فتبعه عدد من التلاميذ، وكان صوتًا صارخًا من أجل الحقِّ والتوبة لأنَّ ملكوت الله قد قرب؛ غير أنَّ يوحنَّا كان واضحًا، على ما يذكر إنجيل القديس يوحنَّا الرسول، فشهد أنَّه ليس المسيح، وهو لا يستحق أن يحلّ سير حذاء المسيح أي لا يصلح أن يكون عبدًا للَّذي يأتي بعده وقد كان قبله. إنَّه الشاهد على النور ولكنَّه ليس النور.

علّم يوحنَّا أنَّ يسوع هو المسيح، ولمزيد من التأكُّد، أرسل تلاميذه ليسألوا يسوع إن كان هو المسيح "أم ننتظر آخر"، وحين أجابهم يسوع: "اذهبوا وقولوا ليوحنَّا: العميان يبصرون والبرص يطهرون والعرج يمشون وطوبى لمن لا يشكُّ فيّ"، تأكَّد ليوحنَّا أنَّ هذا الرجل هو المسيح. وما هذه العلامات التي أعطاها له إلاَّ تلك التي ذكرها الأنبياء كعلامة لمجيء المسيح، عندها قال يوحنَّا لتلاميذه: "إذهبوا واتبعوه" فعليه أن ينمو وعليَّ أن أنقص".

6- يسير بروح إيليَّا

لماذا ذكر الكتاب المقدَّس على لسان الملاك أنَّ يوحنَّا يسير بروح إيليَّا؟ هناك تقليد عند اليهود يقول إنَّ إيليَّا النبي، الذي صعد إلى السماء بمركبة من نار، سوف يعود قبل مجيء المسيح ليحارب المسيح الدجَّال ويقتله ممهِّدًا الطريق أمام المسيح الحقيقي ليملك على الأرض.

لم يبتعد كلام الملاك عن هذا التقليد ولم يعارضه بل أوضحه ووضعه في مساره الصحيح، أي أنَّ نبيًّا عظيمًا سيسبق المسيح ليعدّ له الطريق ويعرف باسم السابق، وينادي: "توبوا فقد اقترب ملكوت الله"، أي مجيء المسيح، ويتحلَّى بصفات إيليَّا أي الغيرة على حقيقة الدين السماوي ومقاومة كلِّ فساد ديني وأخلاقي حتى لو اقتضى به الأمر إلى حمل العصا أو السيف.

كما كان إيليَّا يواجه آحاب الملك، الذي كاد يفسد حقائق الإيمان والممارسات، واجه يوحنَّا هيرودوس الملك، الذي أفسد الأخلاق وخالف الشريعة بالزنى والفحشاء، وكما أعدّ إيليَّا طريق الربِّ بقتله كهنة البعل الذين بشَّروا بآلهتهم الوثنيِّين، كذلك نادى يوحنَّا بالتوبة والمعموديَّة بالماء، استعدادًا لملاقاة الملك المسيح الذي سيعمِّد العالم بالنار والروح القدس، وكما أخطأت السلطة بالحكم على إيليَّا فهرب إلى صرفة صيدا، أي الصرفند في جنوب لبنان، كذلك أخطأ الفرِّيسيُّون وعاملوا يوحنَّا كأنَّه مجنون، وأخطأ هيرودوس ورماه في السجن ثم قطع رأسه على الرغم من علمه أنَّ الشعب يعتبر يوحنَّا نبيًّا.

يعلِّمنا يوحنَّا، بكلامه وسلوكه، أن نشهد للحقِّ ولا نتراجع أمام المغريات والترهيب، عن إعلان الحقيقة للناس، فمن يسكت عن إعلان الحقيقة يشارك في الخطأ. فإنَّ خير وسيلةٍ لكي يستفحل أهل الشرّ هي أن يسكت أهل الخير. كذلك يعلِّمنا القناعة بالعيش البسيط، لأنَّها تحرِّرنا من ارتباطنا بالمادَّة التي تقف مانعًا أمام الرسالة التي أوكلها الله إلينا.