نعم وفي قلق كبير، والسبب في القلق، ليس في هذا التعثر المألوف في إنتخاب الرؤوساء وتكوين الوزارات وبياناتها، بل لأنّ لبنان يتأرجح على إيقاعات معقّدة لها علاقة بتفسّخات جذرية وإنقسامات حادّة بين أفرقاء:

فريق يشحذ ويشهر أسلحة المعارضة من الأصناف والموديلات والفعاليات كلّها وفريق آخر يشهر سلاح التشفّي والسجون والمحاسبة والمساءلة، وفريق ثالث يطرح مصيره ومصير سلاحه وصواريخه فوق الطاولات الحوارية والإقليمية والدولية، بينما الفريق الغالب من اللبنانيين يشحذون اللقمة كما يقال، متلهّفين لمعرفة ما سترسو عليه ما يدور حولهم من ثورات واحتجاجات وغموض مصائر وقلق أنظمة، كما له علاقة بفراغات الحكم بما قد لا يغيّر جذرياً في الواقع.

ماذا يعني الفراغ غير إنتفاء السلطة؟ الإنتفاء لا يعني السقوط؟ هو التقرّب من الحافّة. اللبنانيون يعيشون دوماً على الحفافي. على رأس السطوح حيث أنّ أية عاصفة هوجاء ترميهم الى تحت. لربّما يكون الموقد مشتعلاً تحت.

هو تاريخ مقيم بين الفراغ والتعثّر. فراغ لعامين ونصف تقريباً في كرسي الرئاسة تمّ تجاوزه بإنتخاب الجنرال ميشال عون. هلّل اللبنانيون فوجدوا رئيس حكومتهم المختار وبلدهم يتعثّر أمام تأليف الحكومة. قد تؤلّف الحكومة وما فات زمن الإنتظار بعد بالنسبة للبعض وقد لا تؤلّف بالنسبة للبعض الآخر لأنّ الكيديات والمحاصصات تتكدّس في النفوس وتحت الطاولات. إن تمّ تأليفها ولنقل تشكيلها مع أنّ شكلها صار سبه معلن، سيقع اللبنانيون في تعثّر جديد مألوف، هو التعثّر في إنجاز البيان الوزاري في لبنان مع أنّ البيانات الوزارية وحتّى الدستور صارا وجهات نظر وإجتهادات لها أكثر من طابع طائفي ومذهبي ومصلحي شخصي. يتقاتل الزعماء في لبنان على الوزارات وألقاب أصحاب المعالي الذين يبدون متنقلين من مكانٍ الى آخر في السياسة، وكأنّهم في الحكم منذ ما قبل الميلاد بقرون.

بالمقابل، وقد ذكرنا اللبنانيين لأكثر من مرّة حتّى الآن في هذا المقال، نسأل: ماذا يفعل اللبنانيون؟ يتلهّى اللبنانيون أعني الناس وأصحاب المصالح ولبنان الرسمي الراسخ مذهبياً فوق صدر الوطن، في تقبّل التهاني وتبادلها، مع أن التهنئة الحقيقية للرئيس أو لرئيس الحكومة أو للوزير ليست، ولا يجب أن تكون عندما يتبوأ المقام، بل إذا كان الأسف على فراقه وتركه للمقام أشدّ من السرور عند تبوئه إيّاه. هكذا يسعى الرؤوساء والوزراء في كلّ زمانٍ ومكان للحصول على هذا التأسّف عند تركهم "المؤقّت" لمناصبهم، بدلاً من الحصول على سرور الناس وتملّقهم عند قعودهم فوق الكراسي أو خلف الشاشات وكأنّهم يحكمون من خلف الشاشات. يروحون في طرح منجزاتهم الشفاهية التي لا جذور لها في فراغ اللبنانيين وعجزهم عن التبديل والتغيير.

لا تتجاوز هذا الحمّى في السلطة أكثر من ثلاثة آلاف شخص لبناني يدورون في صالونات أصحاب القرار من أحزاب وزعماء بدأت زعاماتهم منذ التاريخ الأوّل أبّاً عن جدود. هؤلاء هم اللبنانيون المزروعون مذهبياً في دوائر الدولة وإداراتها أمّا الباقي من هؤلاء فلا يعنيهم، على الإطلاق، ماذا يقال أو يكتب في العلاقات السورية اللبنانية أو السعودية اللبنانية أو في الأمن بين سوريا ولبنان أوفي الشعب والجيش والمقاومة بل الأكثر أهمية بالنسبة إليهم وضع الحلول لا الخطوط تحت البنود التي اعتادت الوزارات أن تسهب فيها في شرح الأمور العادية مثل حفظ الأمن وإقامة العدالة وصيانة الحريات وتأمين الماء والكهرباء وتدني الرواتب وتفاقم البطالة والأزمات المعيشية والإقتصادية والدواء والتعليم والفساد والرشوات والطائفية وغير ذلك من لوازم العمل الحكومي التي بقيت في حدود النصوص وهي لم تخرج الى التطبيق.

لا يستأهل إنتخاب رئيس أو تسمية رئيس وزراء أو وزير أو كتابة البيانات الوزارية كل هذا العناء والمشقّة والأزمات، ولو تسابق نصوص الحكم في لبنان مع نصوص العالم كلّه والأمم المتّحدة. هناكّ مسافات هائلة راسخة عندنا بين النص والتطبيق، أوبين البيانات الوزارية وطريقة الحكم والإنجازات، أوبين الخطب والمواعظ السياسية والبرامج وسلوك السياسي. بين يديّ كتاب للصديق والجار جان ملحة سفير لبنان السابق في دولة قطر، رحمه الله، عنوانه: البيانات الوزارية، وفيه جمع الرجل البيانات الوزارية ل حكومات لبنان في 62 سنة أي منذ رياض الصلح رئيس حكومة لبنان الأولى الى رئيس الحكومة ال 22 فؤاد السنيورة.

لن يجد قاريء هذه البيانات أو متصفحها ، سوى نصوص مستنسخة، متكررة، لا تقول الكثير، بل إنها لا تقول شيئاً وكأنها شاهد على جمود الزمن.

مثال واحد على ذلك:

وقف أوّل رئيس حكومة رياض الصلح في العام 1943 مع حكومته من خمسة وزراء أمام نواب لبنان قائلاً:" نحن لا نريد لبنان للإستعمار مستقراً، وهم لا يريدونه للإستعمار اليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً ، مستقلاً، سيّداً، حراً".

ووقف فؤاد السنيورة من صيدا أيضاً في جنوبي لبنان في العام 2005، بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري مع دزّينتين من الوزراء قائلاً :

" أنّ لبنان لن يكون ممراً أو مستقراً لأيّ تنظيم أو قوة أو دولة تستهدف المساس بأمنه وأمن سوريا تأكيداً لمبدأ أنّ أمن لبنان من أمن سوريا، وبالعكس".

ماذا سيقول رئيس الحكومة سعد الدين الحريري بعد تأليف الحكومة ؟

مع إعتذاري عمّا نحن فيه وخجلي من كلّ خليجي أو مواطن في الخليج حيث أنشر هذا النص، ينتظر اللبنانيون غير هذا كلّه. وهاكم مثلاً على ذلك:

يدفع اللبناني العادي ما يقارب المئة دولارأميركي مصاريف كهرباء للمولّدات التي إجتاحت كلّ بقعة من لبنان، ويدفع مثلها لكهرباء الدولة. ما رأيكم لو أخذت الدولة المئتي دولاراً وأمّنت الكهرباء للناس؟ لا جواب. يرتبط أصحاب المولّدات برؤوساء وأعضاء البلديات وفعاليات كلّ حي وهؤلاء لا يدفعون ما عليهم بل يحتسبونه بزيادة شهرية على اللبنانيين، ويتقاسمون الأرباح مع زعمائهم وأحزابهم وطوائفهم في إختلاط مريع بين القطاعين الخاص والعام.

هذا المثل والمثال ينسحب على مرافق الدولة كلّها التي تبدو سائبة وكلّ الخليج والعالم يخاطبنا: نحن نحبّ لبنان بكسر اللام.

لا قيمة للكلام والنصوص في أصول الحكم.