"ما قبل تحرير​حلب​ لن يكون كما بعدها"، هذه المعادلة الواضحة يدركها كافة اللاعبين على الساحة السورية، نظراً للأهمية الكبيرة التي تحظى بها المدينة، فهي تعد العاصمة الإقتصادية للبلاد، ونقطة التحول في سياق المعارك العسكرية، كما أنها البوابة الأساسية للنفوذ التركي، الذي كان يسعى في بداية الأزمة إلى إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، واليوم يكتفي بالسعي إلى حماية حدوده، عبر منع إنشاء كيان كردي في الشمال السوري.

المواقف السياسية التي رافقت هذه المعركة، بالتزامن مع عدد من المشاريع التي عرفتها أروقة مجلس الأمن الدولي، تؤكد المسار الذي ستسلكه الأزمة بعد الإنتهاء منها، في ظل الإصرار الروسي على تحرير حلب قبل نهاية العام، ضمن معادلة ميدانية تسعى موسكو إلى فرضها على الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب لدى تسلمه زمام الأمور رسمياً، فاليوم لم يعد جائزاً الحديث عن مصير الأسد، نظراً للإنتصارات التي حققها ​الجيش السوري​ على أرض الواقع.

بالتزامن مع هذه المعطيات الميدانية المهمة، يبدو أن المعركة المقبلة ستكون في الجانب السياسي من الأزمة، حيث لم يتوقف الحديث عن سوريا المستقبل في الأروقة الدولية منذ البداية، ويمكن القول أن الجماعات الإرهابية كانت اللعب الأبرز على هذا الصعيد في الميدان العسكري، حين كان المطلوب أن تكون الأداة التي تقود إلى التغيير المنتظر، وبعد ذلك تطرح المشاريع المستقبلية تحت عنوان القضاء عليها.

ضمن هذا السياق، يأتي "تحذير" وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت مؤخراً، من احتمال تقسيم سوريا في الوقت الذي تشتد فيه الحرب، حيث تحدث عن إحتمال تشكّل ما يسمى "داعشستان" في المناطق التي يسيطر عليها "داعش"، إلى جانب "سوريا المفيدة" التي ستكون تحت سيطرة الدولة، مع العلم أن باريس من أعضاء التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، الذي يعلن أن هدفه تحرير تلك المناطق من التنظيم الإرهابي، لكن السؤال الدائم كان حول مستقبل هذه المناطق، التي جذبت مختلف دول العالم إلى سوريا والعراق تحت عنوان محاربة الإرهاب.

في هذا الإطار، من المفيد العودة إلى المفاوضات السياسية التي رافقت إطلاق معركة تحرير مدينة الموصل العراقية، لأن السيناريو سيتكرر في المستقبل القريب على الساحة السورية، حيث سعت عدّة قوى دولية وإقليمية إلى حجز موقع لها، إنطلاقاً من الدور العسكري الذي تقوم به، فالولايات المتحدة تحدثت عن البقاء في العراق لفترة طويلة، في حين أرادت تركيا حجز موقع لها لطرح مشروع إقليم نينوى المشابه لإقليم كردستان الحالي، في وقت كانت فيه القوى العراقية الحليفة لإيران ترفض خيار الذهاب إلى تقسيم البلاد بأي شكل من الأشكال، وتصر على إشراك قوات "الحشد الشعبي" في المعركة.

بالعودة إلى الساحة السورية، أغلب المناطق التي يتم تحريرها من "داعش"، تحت قيادة التحالف الدولي، توضع تحت سلطة مجالس محلية، باستثناء تلك التي باتت تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، وهو الإطار نفسه الذي كان قد تقدم به مؤخراً المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لمعالجة الواقع في حلب، إلا أن الرفض جاء من الحكومة السورية، ومن المتوقع أن يكون حاضراً عند البدء في معركة تحرير مدينة الرقّة، التي تعتبر المعقل الرئيسي للتنظيم الإرهابي في سوريا، حيث الهدف، في الوقت الراهن، عزلها عبر العمليات العسكرية التي تقوم بها "قوات سوريا الديمقراطية".

على الصعيد نفسه، كان كل من مدير المخابرات الفرنسية برنار باجوله ومدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية جون برينان، قد تحدثا قبل نحو عام من الآن، خلال مؤتمر نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية، عن أن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة"، في حين أظهرت ورقة عمل، قبل أيام، أن الجهاز الدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي يعتبر أن اللامركزية في سوريا يمكن أن تشكل مفتاحاً للتهدئة والاستقرار، مع إعادة توزيع لسلطات الدولة، في مجالات الصحة والتعليم والنقل والشرطة وغيرها، على المحافظات أو الأقضية والنواحي.

وعلى الرغم من أن الكثيرين يعتبرون هذه الطروحات لم تعد منطقية، خصوصاً بعد الإنتصارات التي يحققها الجيش السوري، تبرز القواعد العسكرية الأميركية في المدن والبلدات في الشمال والشرق، بالإضافة إلى المنطقة التي يسيطر عليها التركي ويسعى إلى توسيعها، من دون إهمال الفيدرالية أو الإدارة الذاتية المعلنة من جانب الأكراد، والرغبة الإسرائيلية في إنشاء حزام أمني على الحدود مع الجولان السوري المحتلّ، ما يؤكد بأن المعركة المقبلة ستكون هي الأصعب على الإطلاق.

في المحصّلة، لا يجب أن تمنع الإنتصارات العسكرية من التنبه إلى المخططات السياسية، التي تطرح بين الحين والآخر، نظراً إلى أنها قد تقضي على الإنجازات السابقة لكن على طاولة مفاوضات لا في أرض معركة.