تحتفل الكنيسة هذا الاسبوع المبارك بذكرى البيان ليوسف (متَّى 1، 18-25) الصدِّيق خطيب مريم الذي يعني ظهور الملاك ليوسف كي يوضح له سرّ الحبل الإلهي، ونتأمَّل في:

1- واقع العلاقة بين الله ومحبِّيه

يعلِّمنا الكتاب المقدّس أنَّ طيب العلاقة بين الله والإنسان بدأ منذ كان الإنسان، الذي خلقه الله كي يحبَّه ويعبده ويتحاور معه، بانيًا علاقة ملؤها الثقة والمحبَّة والاحترام، غير أنَّ الخطيئة التي وقع فيها آدم شوّهت هذه العلاقة فجعلتها علاقة خوف وتردّد وترقُّب ونزوع نحو فعل ما لا يريده الله. لم يرق هذا الواقع لله وربَّما لم يرق للإنسان أيضًا، فأرسل الله للبشر أنبياء ورسلاً يهدون الناس إلى السبيل القويم والسلوك الحسن، فمنهم من اهتدى ومنهم من ظلّ على عناده رافضًا رحمة الله وتقرُّبه الدائم من الإنسان وسهره عليه واعتناءه به. وعاد الله ليخاطب بعضًا من الذين حسنوا لديه ليجعل منهم رسلا جددًا وأنبياء يمهِّدون الطريق لمجيء ابنه كفَّارة عن الخطايا ولإصلاح ما أفسدته الخطيئة، من هؤلاء الآباء والأنبياء: ابراهيم، اسحق، يعقوب، موسى، هارون، صموئيل، شمشون، إيليا، إرميا، حزقيال، دانيال وصولا إلى زكريَّا ويوحنَّا وآخرهم يوسف خطيب مريم الذي دعاه الله، لصلاحه وحسن سيرته وصدقه في التعامل مع الله والناس، ليكون وصيًّا على ابنه ومربِّيًا وساهرًا على ​مريم العذراء​ عروس الروح القدس، فناداه الملاك: «لا تخف يا يوسف من أن تأخذ مريم إلى بيتك لأنَّ المولود منها هو ابن الله.

2- كيف تمّ اختيار يوسف؟

لمَّا كانت البتوليَّة غير مرغوب فيها عند الشعب اليهودي، لأنَّ واجب الجميع الإنجاب من أجل ألاَّ يكون أحد عائقًا في طريق مولد المسيح المنتظر. ولمَّا كانت مريم يتيمة الوالدين وقد نذرت نفسها للهيكل والصلاة والتأمّل والخدمة، رأى الكهنة والمسؤولون عن الشريعة أن يعيَّن رجل يكون وصيًا على مريم يرعاها ويسهر عليها لتكمّل مشيئة الله. عندها جمعوا عددًا من الرجال الصالحين ليختاروا منهم واحدًا.

بما أنَّ اليهود يعتمدون كثيرًا على علامات الربِّ الظاهرة، صلُّوا وسألوا الله أن يرشدهم إلى الرجل المطلوب، فحملوا عصا هارون، التي كانت في تابوت العهد، وداروا بها على الرجال الحاضرين، فلما وصلت إلى يد يوسف الصدِّيق أورقت العصا اليابسة منذ ألفي سنة وأزهرت. هذه العصا اليابسة التي أزهرت ترمز الى كلّ الولادات التي حصلت بتدخُّل إلهي ومنها ولادة يوحنَّا من إليصابات وبخاصةٍ ولادة يسوع من عذراء وبدون قوَّة رجل. من هنا نجد في إحدى الصوَر، مار يوسف حاملاً زنبقة، فهذه الزنبقة هي عصا هارون التي أورقت، ففهم الكهنة أنَّ الله اختار يوسف ليسهر على مريم، فاصطفاه من بين كلِّ الرجال، راعيًا ومرشدًا ومربِّيًا لإبنه، لذلك نصلِّي في تساعيَّة الميلاد قائلين: «بشفاعة العذراء مريم ومار يوسف صفيّك».

نحن اليوم وفي يد كلِّ واحد منَّا عصا قد أورقت، وأوكل الله إلينا مهمَّة مقدَّسة، ربَّما تكون السهر على يسوع المسيح بالذات من خلال السهر على كلِّ إنسانٍ علينا أن نرى فيه صورة المسيح عملا بكلام الإنجيل: «كنت جائعًا فأطعمتموني وعطشانًا فسقيتموني وغريبًا فآويتموني» ثم أضاف: «كل ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه».

3- الصمت التأمُّلي عند يوسف:

هناك تواصلٌ بين صمت زكريَّا المقضي من الله لمدَّة تسعة أشهر، وصمت يوسف المبني على توضيح سرّ التجسّد من قبل ملاك الربّ. وإذا كان صمت زكريَّا علامة للشعب، فإنَّ صمت يوسف علامة تدلّ على حقيقة هذا الرجل. تأمَّل يوسف صامتًا بكلام الملاك الذي سمعه وهو في هدأة النائم، لم يسأل ولم يُجِب بل تصرّف واثقًا مؤمنًا. تأمَّل في السرّ العظيم: سرّ الله في تدبيره الخلاصي وسرّ الإنسان المؤتمن على هذا السرّ.

عرف يوسف قيمة الإنسان المخلوق عند الله الخالق، كيف لا وقد وضع ابنه أمانة بين يديه ليربِّيه كما يربِّي كلُّ رجل ابنه، يعلِّمه، يدرِّبه لينمو بالقامة والحكمة أمام الله والناس. عرف يوسف أنَّه مسؤول مع مريم عن ملكوت الله قبل إعلانه، وإذا كان يوحنَّا هو السابق في إعلان البشارة فإنَّ يوسف ومريم هما السابقان الوحيدان اللذان كان لهما شرف ثقة الله بهما.

حافظ يوسف على حياة ابن الله بقدرته وحسن تدبيره وطاعته، على الرغم من علمه اليقين بأن الله قادر على حماية ابنه من كلِّ شرور الأرض. إنَّه رمز المؤمن العامل الذي شارك الله مختارًا في حسن مسار تاريخ الخلاص. وإذا ما وصفت الكنيسة مريم بأنَّها شريكة في الفداء، فلها كلُّ الحقِّ أن تصف يوسف بأنَّه المدافع عن هذه الشركة وحاميها إلى حين زوال أخطار الشرِّير عن إمكانيَّة تخريبها.

4- لا تخف من أن تأخذ مريم امرأة لك

لم يترك الله يوسف فريسة للقلق بشأن موضوع حبل مريم من الروح القدس، بل أتى إليه يُعْلمه بالحقيقة. هذا هو الله الخالق الجبَّار يأتي شخصيًّا إلى الإنسان المخلوق الضعيف العاجز.

أمام القلق الذي ساور قلب يوسف حين علم أنَّ مريم حامل، جاء الملاك كاشفًا له السرّ العظيم وكيف أنَّ مريم حبلى من الروح القدس. لا شكَّ في أنَّ الخوف الذي اعترى قلب يوسف له أسبابه الاجتماعيَّة والشرعيَّة. غير أنَّ ثمَّة خوفًا من نوع آخر، بعدما عرف يوسف أنَّه سيربِّي ابن الله. إذ كيف يمكن لإنسان أن يكون وصيًّا على إبن الله وحارسًا لأمِّ الله؟ كيف يمكن للمائت الفاني أن يسهر على من ليس لملكه انقضاء؟ إنَّها لمهمَّة رهيبة يقف أمامها الإنسان خاشعًا خائفًا، خصوصًا أنَّ العلاقة بين الإنسان والله في العهد القديم كانت متلازمة مع «الخوف والرعدة»، فكيف يمكن لإنسان أن يحمل على ذراعيه إلهًا وهو الذي تعلّم من موسى أنَّ «من يرى الله يموت»، لذلك خاف يوسف وخوفه مبرَّر شرعًا، فجاء كلام الملاك مطمئنًا مزيلا كلَّ خوف ومبعدًا عن قلب يوسف كلَّ قلق سواء كان من التقاليد الاجتماعيَّة أم من الشرع الإلهي.

نحن أيضًا حين نخاف أمام كلِّ مسؤوليَّة نتحمّلها، علينا أن نلجأ إلى الله، السند والعضد الذي طالما خاطبنا قائلاً: «تعالوا إليَّ أيُّها المتعبون وثقيلو الأحمال وأنا أريحكم»، بخاصَّة إذا كانت المسؤوليَّة التي نحملها تدخل في مشروع الله، فالله لا يحمّل نفسًا أكثر من طاقتها.

قلق يوسف هو صورة عن كلِّ ما يسبِّب اضطرابًا في قلب الإنسان من هموم هذا العالم ومصاعبه وأسراره. فإذا كان الناس يسعون إلى إزالة قلقهم عن طريق المادَّة والمال والعلم والبحث والقوَّة والسلاح والملذَّات والمناصب، فإنَّ يوسف لم يخطر بباله أيُّ واحدة من هذه كلِّها بل لجأ إلى الله، كأنَّه سبق القديس أغسطينوس حين قال: «قلبنا يا رب سيظلّ قلقًا مضطربًا إلى أن يستريح فيك».

أجل لقد استراح قلب يوسف ما إن سمع كلمة الله، فهل نعتبر نحن ونستريح من قلقنا وتساؤلنا وهمومنا حين نسمع كلام الله؟

5- يخلِّص شعبه من خطاياه

أوضح الملاك جبرائيل مهمّة يسوع المسيح المتجسّد من مريم ومن الروح القدس، حين بشَّر مريم بالحبل الإلهي، وها هو الآن يكرِّر الإيضاح ليوسف، مبيِّنًا له الدور الأساسي الذي سيقوم به يسوع وهو «خلاص الشعب من خطاياه». إنَّه تحقيق الوعد الذي وعد به الله آدم وحواء بعدما سقطا في حبائل الشيطان وخطئا أولى الخطايا وأكبرها.

هذا الدور الفريد الذي سيقوم به يسوع الرجل، وضع بحماية يوسف حين كان يسوع طفلا، هذا يعني أنَّ دور التبنِّي والحماية والتربية الذي تسلَّمه يوسف إنَّما تسلّمه من يد الله، وهو دليل ثقة الله بهذا الرجل الصدِّيق، إذ لا يجرؤ أي شخص أن يضع ابنه الوحيد بين يدي رجل آخر ليسهر عليه ويربِّيه. هذه الثقة المطلقة دليل على أنَّ الله، على الرغم من خطايا الناس، يرى فيهم طينة حسنة طيِّبة قادرة على أن تقوم بأعمال رائعة وتشارك الله في برنامجه الخلاصي.

أصبحت هذه المشاركة مجال عمل لكلّ معمّد، فالبشارة التي أوكلت إلى الرسل أوَّلا، وأوكلت لكلِّ معمّد الآن، تسمح للناس كافَّة بدخول الملكوت، هكذا يكون المسيح قد خلَّص شعبه من خطاياه بموته وقيامته، وبإعلان البشارة كأسلوب لإيصال فعل الخلاص إلى سائر الناس.