بعد أن تكلمنا في القسم الاول من مقالنا عن المعنى اللاهوتي والعقائدي للتجسد الالهي ول​عيد الميلاد​ وعرفنا أن ابن الله صار انسانا وسكن بيننا وصار اسمه "عمانوئيل" اي الهنا معنا، سنتكلم في هذا القسم الثاني عن بعض العادات والمظاهر والتقاليد الاجتماعية والطقوس الاحتفالية التي ترافق هذا العيد. من الغزلان، الى الثلج الى النور، الى المجوس، الى البابا نويل، الى شجرة العيد الى الرعاة الى الملائكة، الى المآكل والملابس والى مسؤوليتنا المسيحية والانسانية في هذا العيد المبارك. فما هي القراءة الانتروبولوجية لهذه العادات والتقاليد والفولكلور؟!. أول ما تطل لعينيك حاملة بهجة وفرح العيد هي الزينة الميلادية والانوار والاضواء والغزلان تملأ الشوارع والساحات والمدن والبيوت، وشجرة العيد المليئة بالثلج والنور تزين الشوارع أيضا والطرق والساحات، فهي تعلن أن المسيح نور العالم آت الى العالم، وهو نور من نور وله أجراس الفرح تقرع، وتطلق الترانيم والصلوات والتراتيل والاغاني وأبواق واصوات الملائكة مرنمة المجد الله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس الفرح والمسرة، هللويا، هللويا، هللويا.

نور على الرعاة والمجوس

نور ونجم ظهرا في المشرق للملاك والمجوس الذين ليسوا هم سحرة بل هم علماء حكماء يراقبون النجوم وحركات الكواكب والفلك والسماء والكون، وهذه كلها تحرّكات ترافق كل حدث عظيم في الكون أو عند ولادة عظيم سيكون له دور كبير في مسار الكون والعالم.

وهذا النور أشرق على رعاة وهم أفقر الناس يحرسون أغنامهم في الليل. وكان المجتمع في ذلك الزمان يعتبر أن الرعاة هم من أفقر الناس.

والنور ظهر في الكون، في السماء وعلى الارض لأعظم الناس ولأوضع الناس. الضياء والشتاء والنور والبهاء غمر الكون وامتلأت قلوب الناس بهجة وفرحا وسرورا، ورجل مهيب الهيأة، أبيض اللحية مشرق الوجه والبسمة يملأ صوته الليل فرحاً وهو آت على عربة تجرها الغزلان، وينزل من مداخن البيوت حاملاً هدايا الفرح واللعب والحلوى والثياب الجميلة، وكل أماني الاطفال انه بابا نويل يقرع، هو الرجل الآتي من القطب الشمالي ومن بلاد الثلج والبرد والصقيع، ليحمل بصرخته الجميلة كل الفرح لقلوب الاطفال. بابا نويل ليس قديسا ولا هو حقيقة بل هو طيف الفرح الذي نحتاج اليه جميعا في هذا العالم، لنعود أطفالاً صغارا مع أولادنا. فلا تدمروا حكاية وجرس الفرح في ليل العالم.

شجرة العيد

شجرة العيد رمز الحياة وخشبة صليب الخلاص في كل بيت من المسيحيين والكثير من المسلمين، وعلى جذعها مغارة ميلاد يولد فيها الطفل يسوع وقربه أمه مريم التي لفّته بالأقمطة لتقيه برد بيت لحم، ويوسف منذهل مدهوش فرحان بأن المخلص أتى الى العالم والثور والحمار جاثيان ينفخان لهما ليدفأ الطفل الصغير المولود جديدا. ورعاة يحملون حملانهم على اكتافهم هدية للمولود المخلص وملوك مجوس تنحسبار، بلتزار، ملكون، من أقاصي الشرق وأنوارهم يتبعون النجم، ليقدموا له ذهبا ومراً ولباناً وحباً وشكراً وخضوعاً. وفي السماء على باب المغارة رفوف ملائكة يعزفون بالابواق وينشدون: "المجد الله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرّة، هللويا ولد لنا اليوم المخلص الذي اسمه يسوع. في هذا العيد نتشارك سويّة بالافتتان بوجه يسوع الجميل ووجه مريم المصطفاة، والقمح الاخضر الصغير الذي زرع حبا في عيد البربارة ونبت وصار زرعا أخضر علامة الحياة الجديدة المولودة في الكون، القمح يزيّن جوانب المغارة ليقول لنا ان الحياة الجديدة معطاة لنا بميلاد يسوح المسيح.

لقاء السماء والارض

الى هنا أتى الرعاة الذين قالوا "لنذهب ونرى" واتوا وشاهدوا ورأوا. ولنذهب أيضا ونرى الحب والخلاص الى هنا أتى المجوس "ليروا ملك العالم".

الى هنا أتت الملائكة من السماء لترى وجه ابن الله المتجسد مخلصا للعالم. ونحن لنذهب اليه ونرى وجهه، وجه الابن الحبيب للآب الذي أحبنا وأخذ جسدنا ليفتدينا ويشفينا من خطيئتنا ويغفرها لنا بدمه ويخلصنا ويردنا الى ملكوت الاب، ونعلق على أبوابنا وقلوبنا أكاليل الغار والنصر ونقدّم الحلوى وخاصةBuche de Noel ضيافة الفرح الجميل.

لنذهب الى الفقراء

في هذا العيد إن لم نذهب للقاء المسيح في الفقراء والتعساء فلن نكون في الميلاد، في هذا العيد ان لم نتقاسم خبزنا ومأكلنا مع الجياع ببعض المآكل الخاصة بالعيد كالحبش وسواها لن نكون في الميلاد. ونكون سرقة كما قال يوحنا فم الذهب في هذا العيد ان لم نعطِ العريانين بعضا من ثيابنا ولم نكسهم بحبنا وعطائنا وكرمنا مما عندنا فلن نكون في الميلاد وتكون سرقة كما قال القديس باسيليوس. يسوع يقول لنا اليوم كنت جائعًا فأطعموني فاطهموني، كنت عطشانا الى الرحمة والعطف والمساعدة والحب فارحموني. كنت عريانا من الثياب والقيمة والكرامة فاشفقوا عليّ، انا انسان مثلكم قسى الدهر والايام عليّ وعلى عيالي.

مع ثيابنا الجميلة التي نرتديها في هذا العيد علينا أن لا نكتفي بالمظاهر واللباس الخارجي والظاهر والوجاهة والتشاوف ونبقى في فعل الظهور Paraitre ، بل يجب علينا أن نكون في فعل الوجود Etre وليس فقط Avoir. اي ان نلبس المسيح وما فيه من رحمة ومحبة وكرم وبذل ومغفرة ومصالحة وسلام وكرم وعطاء وليس ما على جسدنا من ثياب.

شربل والميلاد

في هذا الليل ولد لنا نحن اللبنانيين قديس عظيم في السماء شربل الذي مات ليلة عيد الميلاد، واعطى لبنان وأهله نعما غزيرة ووهبه مجدا لا يضاهى ولم يعطه أي شخص آخر في لبنان وفي العالم، القديسون وحدهم ينمون البلاد يشقون الطرقات يجرون المياه ينيرون الطرق.

بكاء في بيت لحم

هذا العيد الفرح لم يخلُ من العويل والنحيب والبكاء والتفجع والمأساة، خاصة عندما ذبح هيرودس أطفال بيت لحم: "صوت سمع في الرامة راحيل تبكي على بنيها".

هجرة ورحيل

ولم يخلُ من الفقر والاضطهاد والخوف على الاولاد والهجرة والهرب الى عالم آخر، هو مصر المباركة التي التجأ اليها ودخلها كل من يوسف ومريم ويسوع وسكنوا هناك في المعادي على النيل لمدة أكثر من ثلاث سنوات ليتم قول الكتاب: من مصر دعوت ابني!

فرح ملء الزمن

في هذا العيد ولد السلام في القلوب، والمحبة بين الناس، والمصالحة والتسامح والأخوة والمغفرة بين الأعداء، والعدل والمساواة بين الشعوب. في هذا العيد صالحنا الله بابنه يسوع المسيح، الذي خلصنا بصلبه وموته كفّارة مرضيّة عنا. في هذا العيد ولد الفرح والنور وزال الحزن والظلام في العالم، وفي قلوب شعوب الارض. في هذا العيد تم انتظار النبؤات والاباء في البشرية جمعاء واكتمل ملء الزمن.

خاتمة

فقومي استنيري يا أرض وهللي يا سماء، وافرح يا قلبي لأن موعد خلاص قد اتى وتم وفرحي انا اليوم كفرح الحاملين الغلال من الحب والسلام والّذين تم رجاؤهم بالوعد والعهد الجديد. والفرق كبير بين عيد الميلاد في 25 كانون الاول وعيد الغطاس أو التجلي والظهور الالهي. ففي الميلاد ظهر لنا المسيح مولوداً كإنسان إله بالجسد، وهو شمس البر وشمس العالم. وفي عيد الغطاس في 6 كانون الثاني ظهر لنا المسيح إلها مخلصا آت لخلاص العالم. وابتدأت في هذا العيد رسالته الخلاصية الظاهرة بعد أن عاش خفيا لمدة طويلة في الناصرة، هنا ظهرت الالوهيّة، وهناك ظهر الناسوت ولم يولد مرّتين.

فرحنا اليوم نوع من الولادة الجديدة في لبنان بولادة رئيس جمهورية لنا بعد فراغ طال على وطن الارز وعلينا فأوجعنا، وولادة رئيس وزارة جديدة تنتشل الناس من وجعهم وتهتم لحاجاتهم، الاولى من النفايات في الشوارع والساحات، الكهرباء طوال 24 ساعة، والمياه تكفي في بلد المياه ولا تذهب هدرا في الانهار والبحار، البيئة النظيفة من التلوث في أنهارها ومزروعاتها وهوائها ومائها وثروتها الحرجية والسمكية والحيوانية وطيورها، والضمانة للمرضى والشيوخ ومجانية تعليم الأولاد، وتصريف المصنوعات والزراعات، وحماية الصناعيين والعمال والتجار والمزارعين، وتأمين الهوية اللبنانية للمغتربين والمهاجرين في جميع بلاد الانتشار. تمكين الوحدة الوطنية والحضارة والعيش المشترك للبنان الرسالة وقضاء نزيه وعادل وجيش قوي وقوى أمنية رائدة وتجديد قانون الانتخاب: صوت واحد لانسان واحد، الغاء الفساد المعشعش في جميع مؤسسات الدولة، والقضاء على عقلية الاستزلام والرشوة والبرطيل واعتبار هذه اللاخلاقية شطارة. والكفّ عن القول: الكذب ملح الرجال، واليد التي لا تستطيع كسرها، "بوسها وادعي عليها بالكسر"... هذا الكذب الانطولوجي هو سرطان مجتمعنا اليوم. خسرنا اخلاقنا وكل قيم الشرف والصدق والرجولة عندنا. فيا ويل أمة ينبح أهلها كالكلاب وراء أسيادهم، ويزحمون كالدود الازرق تحت أقدام زعمائهم ومستعبديهم. الحرية تكتب بحروف العنفوان على الجباه وليس على الظهور والارداف...

هل نسمع ما قاله القديس أغوسطينوس "ولد المسيح مرة في تاريخنا، ونحن كل يوم نلده ونجعله حاضرا فينا وفي حياتنا وسلوكنا وأعمالنا وأقوالنا وأفكارنا وقلوبنا، بالرحمة والمحبة والمغفرة والمصالحة والشفقة والسلام والوداعة والتواضع والكرم والعطاء وبذل الذات في سبيل الاخرين مجانا وفرحا، ويصير المسيح كل شيء في حياتنا كما قال بولس الرسول: حياتي هي المسيح.

اغفروا لنا في الميلاد وكل ساعة

في هذه السنة المكرسة لمخافة الله بعد سنة الرحمة الالهية، اتى صوت قداسة ​البابا فرنسيس​ كصوت صارخ في البرية، في إحدى لقاءاته مع الفقراء والمهجرين والمشردين، فقال وهو يضمّهم الى صدره، اغفروا لي ان كنت يوما قد اخطأت بحقكم. واسألكم غفرانكم رجال ونساء الكنيسة الذين ينظرون اليكم ولا يريدون ان يروكم. ان غفرانكم هو ماء مقدسة لنا، وتظهر رسالة الفقر الكبيرة. فعلينا نحن المسيحيين جميعا ان نبني كنيسة فقيرة للفقراء. ومن له اذنان سامعتان في هذا الميلاد فليسمع.

الإيقونة المرافقة للنص كتابة الراهب المخلّصي الأب نداء ابراهيم مدير المحترف المخلّصي للإيقونة في دير المخلّص جعيتا.