لم يكن مستغرَبًا أن يخصّص الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الحيّز الأكبر من كلمته الأخيرة للدفاع عن العهد والتأكيد على متانة وصلابة علاقته مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، بعيدًا عن كلّ ما كُتِب ويُكتَب من تأويلات وتكهّنات أضرّت بالحزب أكثر ممّا نفعته.

ولكن ما بدا مفاجئًا للبعض تمثّل بالإشارات "الإيجابية" التي وجّهها السيد نصرالله لـ"​القوات اللبنانية​"، وصولاً لحدّ الحديث عن حيثية سياسية تمتلكها في الداخل اللبناني، الأمر الذي دفعها لتلقّف اليد الممدودة نحوها بإيجابية. فما هي الرسائل التي أراد السيد نصرالله توجيهها على هذا الصعيد؟ وهل من انعكاسات محتملة لها على خط العلاقة بين الجانبين؟

رسائل واضحة

بدايةً، لا شكّ أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" لم يخالف التوقّعات في ما يتعلق بالعنوان الأساسي الذي أراده لكلمته، المتعلق بالعلاقة مع العهد الجديد، والذي لم تعدّل من أجندته التطورات الإقليمية والدولية التي تسارعت خلال الأسبوع الماضي، ولا سيما بالنسبة لمجريات معركة حلب، مع ما لها من أهمية استثنائية بالنسبة للحزب قبل غيره.

ولأنّ ما كُتِب في الصحف الصديقة للحزب قبل غيرها كان مضخّمًا بل مفتعَلاً، على حدّ ما ألمح السيد نصرالله نفسه في كلمته، كان لا بدّ من إيضاحاتٍ وتفسيراتٍ تولّاها "السيد"، الذي كان حريصًا على تبرئة نفسه وحزبه من كلّ ما يُنسَب له على طريقة "المصادر" في الصحف، سواء كان ذلك عن حسن أو سوء نيّة، تمامًا كما كان حريصًا على تأكيد الثقة الكاملة بالرئيس ميشال عون، بمعزلٍ عن كلّ التفاصيل الهامشيّة التي سعى البعض لدقّ الإسفين من بوابتها.

لكن، وأبعد من هذه الثقة، برزت "إيجابية" قلّ نظيرها من جانب السيد نصرالله باتجاه "القوات اللبنانية"، وإن كان الهدف منها التقليل من شأن كلّ ما قيل عن "توجّسٍ" منها ومن نواياها، هي التي لا يتوقف رئيسها سمير جعجع عن التأكيد في كلّ مناسبة أنّ "حزب الله" لا يريد لعهد الرئيس عون النجاح، بل إنّه لم يكن يريد انتخابه رئيسًا.

عمومًا، يمكن القول أنّ السيد نصرالله أراد من لفتته الإيجابية باتجاه "القوات" توجيه رسائل واضحة خصوصًا للأصدقاء الذين أوحوا في الأيام القليلة الماضية وكأنّ "القوات" باتت تشكّل "الشغل الشاغل" للحزب بل "الكابوس" الذي يؤرقه ليلاً نهارًا. ومن هنا، يمكن تفسير حرص الأمين العام لـ"حزب الله" على الحديث عن "انشغالاتٍ أخرى" للحزب عند الغوص في النقطة المتعلقة بـ"القوات" على وجه التحديد، وذلك للقول أنّ ما قيل في هذا السياق أكثر من "مضخَّم"، خصوصًا بالنسبة لحزبٍ يعتبر أنّه يساهم برسم مصير المنطقة ككلّ، من خلال المعارك المفصليّة التي يخوضها في أكثر من مكان.

وفي السياق الإيجابي عينه، يندرج حديث السيد نصرالله عن الثنائية المسيحية المستجدّة، وتشجيعه بشكلٍ مباشر وغير مباشر لتوسيعها لتصبح ثلاثية أو أكثر، علمًا أنّه كان حريصًا على القول بأنّ الحزب لم يكن في جو تقارب "القوات" و"التيار" منذ اليوم الأول فحسب، بل كان من المؤيّدين والمشجّعين على المضيّ فيه، الأمر الذي يدحض كلّ ما يُقال عن "صفعة" تلقاها بفعل هذا التقارب، الذي يجاهر بعض من يصنّفون أنفسهم مقرّبين من الحزب بأنّه لم يكن له جدوى...

إيجابية ولكن!

وبغضّ النظر عن المقاصد العمليّة التي أراد السيد نصرالله إيصالها من خطابه الأخير، فإنّ الأكيد أنّ "القوات اللبنانية" لم تتأخر في تلقف ما وصفتها بـ"اليد الممدودة" تجاهها، حيث سارع قياديون "قواتيون"، على رأسهم نائب رئيس الحزب جورج عدوان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل السابق ملحم رياشي، إلى الترحيب بمواقف الرجل والانفتاح عليها، وصولاً إلى الدعوة للبحث عن "المساحة المشتركة بين اللبنانيين"، كما جاء على لسان عدوان.

ولا شكّ أنّ هذا الأمر شكّل تطوّرًا إيجابيًا قد لا يكون مسبوقًا على خط العلاقة بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية" يمكن البناء عليه، علمًا أنّ محاولاتٍ كثيرةٍ بُذِلت في الآونة الأخيرة، وخصوصًا بعد التقارب بين "القوات" و"التيار الوطني الحر"، لفتح قنوات اتصال بين الجانبين، الأمر الذي لم يحصل لغاية تاريخه، حيث بقيت العلاقات في إطار "الرسمية"، التي لم يخرقها سوى لقاءٌ علنيٌ "يتيم" بين عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي فياض وعضو كتلة القوات اللبنانية النائب شانت جنجنيان، والذي جهد المعنيّون يومها لعزله عن أيّ تفسيراتٍ أو تأويلات سياسية، وحصره في بعده "الاجتماعي" ليس إلا.

واليوم أيضًا، يُستبعَد أن تُتوّج الإيجابية المرصودة بين الجانبين بـ"تطبيع للعلاقات"، أو بإطلاق حوارٍ ثنائي بينهما، رغم أنّ "القوات" تكاد تكون الجانب الوحيد المغيَّب عن حوارات الحزب الثنائية، التي تشمل الكثير من خصومه المعروفين، وعلى رأسهم "تيار المستقبل" و"حزب الكتائب". ولعلّ الإشكاليات التاريخية التي تفصل بين الجانبين هي التي لا تزال تقف حائلاً دون تطوير العلاقة، فـ"حزب الله" مثلاً لم يكن من الذين وافقوا على "العفو" عن رئيس "القوات" سمير جعجع الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني، ونوابه لم يصوّتوا لصالح القانون الذي أخلي بموجبه سبيل "الحكيم"، وهو يراعي في ذلك العديد من "حلفائه" الذي يرفضون التعامل مع جعجع كـ"زعيم سياسي"، شأنه في ذلك شأن رؤساء الأحزاب الآخرين.

وفي المقابل، فإنّ "القوات اللبنانية" تختلف حدّ التناقض مع الحزب في الخيارات السياسية والاستراتيجية، من مسألة السلاح إلى الانخراط في الحرب السورية، وهي تتوجّس من دوره في جرائم الاغتيال التي حصلت في لبنان بعيد العام 2005، خصوصًا لجهة رفضه تسليم المتّهمين من قبل المحكمة الدولية بجريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، واعتبارهم بمصاف "الأبطال"، الأمر الذي يتطلّب "اعتذاراً" قبل أيّ شيء، على حدّ ما يقول البعض في "القوات"...

الشراكة الحقيقية...

ليست المرّة الأولى التي تُسجَّل فيها "إيجابيات" على خط العلاقة بين أحزاب لبنانية متخاصمة، وعلى الأرجح، لن تكون كذلك المرّة الأخيرة، لأنّ اللبنانيين محكومون في نهاية الأمر بالتعايش مع بعضهم البعض، أياً كانت الاختلافات.

ولعلّ المطلوب اليوم، قبل الحديث عن "ترجماتٍ فرديّة" لمثل هذا الكلام، أن يتمّ تكثيف الإيجابية على المستوى "الوطني" ككلّ، لأنّ ذلك وحده فقط من شأنه أن يعيد الاعتبار لدولة الشراكة الحقيقية لا الشكلية!