مع بدء العد العكسي لتصاعد الدخان الأبيض من قصر بعبدا، منبئاً بتشكيل حكومة العهد الأولى، بعد تجاوز عقدة تمثيل "المردة"، بدا واضحًا أنّ مختلف الأفرقاء سارعوا لتصنيف أنفسهم ضمن خانة "الرابحين" من مفاوضات التأليف، باعتبار أنّ كلاً منهم نجح في "اقتناص" الفرصة لتسجيل مكاسب له، سواء في الحكومة نفسها، أو في السياسة عامةً، بشكلٍ يمكن توظيفه بطبيعة الحال في الاستحقاقات المقبلة.

وحده، حزب "الكتائب" بدا "الغائب الأكبر" عن لوائح "الرابحين"، وإن كان حضوره في الحكومة متوقّعًا، في حال توسيعها لتصبح "ثلاثينيّة"، الأمر الذي أشعر قياديّيه بأنّ هناك من يسعى لإحراجهم فإخراجهم من المعادلة، بل لإقصائهم عن المشهد السياسي ككلّ، فإلى أيّ مدى تبدو هذه "الفرضية" واقعية؟ ومن يتحمّل مسؤولية ذلك؟

على الهامش...

منذ وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، يسعى "الكتائبيون" إلى "تبييض" الصفحة معه، كمن يريد "التكفير عن ذنب" ارتكبه بمعارضة انتخاب الرجل رئيسًا للجمهورية. لم يتأخر "تطبيع العلاقات" مع العهد لينطلق، إذ حرص الرئيس السابق أمين الجميّل على تدشينه شخصيًا، بزيارته القصر الجمهوري وإغداق عبارات الثناء على الرئيس المنتخَب، مقدّماً ما يشبه "الاعتذار" عن تصرفات نجله النائب سامي الجميل، على حدّ ما قيل، ممهّدًا الطريق للأخير لفتح علاقة جديدة مع "الجنرال"، وهو ما حصل.

لم يقاطع "الكتائبيون" الرئيس ميشال عون كما فعل رئيس "تيار المردة" مثلاً النائب سليمان فرنجية، فكانوا من أول "مهنئي" الرجل بانتخابه، وأول المشاركين في استشارات بعبدا لتسمية رئيس الحكومة. أكثر من ذلك، هم اعتبروا أنّ ميشال عون، عندما أصبح رئيسًا للجمهورية، بات أبًا لجميع اللبنانيين، انطلاقاً من شعار "بيّ الكلّ" الذي ارتضاه لنفسه، ولم يعد يمثل تكتلاً نيابياً أو وزاريًا محدودًا، مهما كبر حجمه أو صغر.

لهذه الأسباب وغيرها، لم يضعوا "الحرب مع الرئيس إذا أراد" خيارًا واردًا، بل أصرّوا على "التعاون" معه، بما يضمن نجاح العهد قولاً وفعلاً. ولكنّ كلّ ذلك لم يشفع لهم، فوجدوا أنفسهم مركونين جانبًا، "على الهامش"، الأمر الذي كرّسته مفاوضات تأليف الحكومة، التي ظهر فيها حزب "الكتائب" في خانةٍ واحدةٍ، مع أحزابٍ قد لا تكون لها حيثية تمثيلية حقيقية، وباتوا كمن "يتسوّل" ليس حقيبة وزارية وازنة، يفترض أن تكون من حقّهم البديهيّ، بل مجرّد "مقعد وزاري" لإثبات الحضور ليس إلا، لحدّ لم يتردّد الكثيرون في المجاهرة بأنّ حكومة الـ24 وزيراً لن تتّسع لحزب "الكتائب"، وأنّ حصولهم على مقعد مشروطٌ بالذهاب للحكومة الثلاثينية.

وبعيدًا عن "الحكم على النوايا"، فإنّ اللافت أنّ "الكتائبيين"، الذين ينفون تلقّيهم أيّ "عرض جدّي" يمكن البناء عليه للمشاركة في الحكومة، لا يتردّدون في توجيه أصابع الاتهام إلى "​القوات اللبنانية​" على وجه التحديد، وإن تلميحًا، بالوقوف وراء "محاولات إقصائهم"، خصوصًا عندما يؤكدون أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه "التيار الوطني الحر" ورئيسه جبران باسيل، يبدون الانفتاح الكامل على تمثيلهم في الحكومة، ما يوحي بأنّ "جهة مسيحية" هي من تسعى لعزلهم، لغايةٍ في نفس يعقوب ربما، علمًا أنّ "القوات" نفت بشكلٍ رسمي كلّ هذه الاتهامات، جملةً وتفصيلاً.

تراكمات سلبية...

وإذا كان "الكتائبيون" يتفرّجون على تحقيق "المردة" مثلاً للمكاسب رغم ذهابه بعيدًا في خط "المواجهة" مع العهد الجديد، بفضل "وفاء الحلفاء"، فإنّ ما يحزّ في نفسهم أكثر من كلّ ما سبق هو أنّهم في المقابل لم يجدوا أيًا من "حلفائهم القدامى" إلى جانبهم، بل إنّ بين هؤلاء من يعمل على عزل "الكتائب"، أو في أحسن الأحوال، من لا يبدو مكترثاً لتواجدها في الحكومة أو استثنائها منها، لدرجة أنّ من يصنَّفون "خصومًا" لها، على غرار رئيس المجلس النيابي نبيه بري مثلاً وحتى "حزب الله"، يبدون متمسّكين بتمثيلها أكثر من غيرهم، في مفارقةٍ لافتة وتستحقّ التمعّن.

ولكن، ما الذي أوصل "الكتائب" إلى هذه المرحلة من "الصدام" مع الجميع؟ ومن يتحمّل المسؤولية العملية عن ذلك؟

برأي كثيرين، إنّ "الكتائبيين" هم من يتحمّلون المسؤولية الأولى والأخيرة عن المآل الذي وصلت إليه الأمور، بفعل السياسات التي انتهجوها طيلة السنوات العشر الماضية، والتي لم تستطع محاولات "تبييض الصفحة" التقليل من شأنها أو وقعها لغاية تاريخه.

وفي هذا السياق، يقول البعض إنّ حلفاء "الكتائب"، وخصوصًا في "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل"، قد لا يجدون أنفسهم "مُلزَمين أخلاقيًا" بتبنّي قضايا "الكتائب"، كما يفعل "حزب الله" و"حركة أمل" مع "تيار المردة" على سبيل المثال لا الحصر، فالوقائع التاريخية تثبت أنّ "المردة" لم يتخلّ عن حلفائه في "الأوقات الحَرِجة"، وكان دائمًا إلى جانبهم، في حين فضّل "الكتائبيون" ابتكار بدعة "التمايز" واللجوء إليها عند كلّ مناسبة، من دون الاكتراث لموقف الحلفاء، سواء عندما خرجوا من "الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار"، أو عندما تبنّوا فكرة "تطوير النظام"، وغيرها من المحطات التي لا تُنسى.

ولعلّ العودة إلى الوراء قليلاً إلى الأشهر الأخيرة فقط لا تصبّ في صالح "الكتائبيين" أيضاً، خصوصًا لجهة الخطوات التي اتخذوها والتي وُصِفت بـ"الشعبوية"، وتحديدًا في ما يتعلق بقرار الاستقالة من حكومة تمام سلام على أمل تحقيق المكاسب الانتخابية، دون الاكتراث لموقف أحدٍ، وفي ظروفٍ سياسية صعبة وحرجة وغير ملائمة، من دون أن ننسى الموقف "السلبي" الذي اتخذوه فورًا من ثنائية "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" ورفضهم الدعوات التي وُجّهت لهم للانضمام إليها، بل ذهابهم في التصويب عليها إلى الحدّ الأقصى، وخوض المعارك في وجهها.

وإذا كان التصعيد "الكتائبي" ضدّ رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع على خلفية تبنيهما مرشحين لرئاسة الحمهورية محسوبين على قوى الثامن من آذار من المواقف التي تلعب ضدّهم أيضًا في هذه الفترة، فإنّ ممارسات نواب "الكتائب" في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، والتي يعتبر كثيرون أنّها كانت مسيئة لهم قبل غيرهم، من طريقة "التنمير" في التصويت التي اعتمدوها، وصولاً إلى إثارة "الشغب" في القاعة العامة، تبقى "الخطيئة الأكبر" برأي خصومهم، وإن كان "الكتائبيون" يتنصّلون من هذه الاتهامات، ويؤكدون أنّهم مارسوا حقهم الانتخابي بالاقتراع لمن يشاؤون ليس إلا، وأنّ اعتراضاتهم أتت لضمان صحة الانتخاب وعدم الطعن به، وليس العكس.

ضريبة "التمايز"...

قد يقول قائل أنّ "الكتائبيين" يدفعون اليوم ضريبة "التمايز" الذي لطالما انتهجوه، وأوصلهم إلى ما أوصلهم إليه من "يُتمٍ" أنتجه تخلي "الحلفاء" عنهم، وهو "أبغض الحلال"...

ولكن، أبعد من كلّ ذلك، تبقى الأسئلة المشروعة كثيرة، فأيّ وحدةٍ وطنيةٍ يمكن أن تُطلَق على حكومةٍ لا تتردّد في استثناء حزبٍ بحجم الكتائب من صفوفها؟ وأيّ توازنٍ في الأحجام يمكن أن يتحقق عندما تستكثر حكومة على كتلة نيابية خماسية وزيراً، وتعطي كتلة ثمانية في المقابل أربعة وزراء؟ ألم يحن الوقت ليدرك الجميع أنّ سياسة "الثواب والعقاب" لا تجدي في بلدٍ كلبنان؟