لم تولد الحكومة بعد. حُلّت عقدة "​المردة​"، التي كان يُقال أنّها، وحدها، تحول دون إبصار التشكيلة الحكومية الأولى في العهد النور، ليظهر أنّ الأخيرة بحاجة إلى "المزيد من المشاورات"، على حدّ ما قال رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​.

وإذا كانت المعلومات الصحافية تحدّثت عن "عقدٍ تقنية" مرتبطة بصيغة الحكومة الثلاثينية وإصرار بعض القوى على إسنادها بحقائب، فإنّ ​قانون الانتخاب​ عاد ليحتلّ صدارة الاهتمام خلال الساعات الماضية، بعد محاولة القوى السياسية، و"التيار الوطني الحرّ" على رأسها، في فصله عن موضوع الحكومة.

فهل من جديدٍ أفضت إليه جولة "التيار الوطني الحر" على القوى السياسية، خصوصًا في ضوء ما يُحكى عن "تباعُدٍ في الرؤى" بين الكثير من الحلفاء على هذا الخطّ؟ وهل من آفاقٍ لإقرار قانونٍ انتخابي عصري يصبو إليه اللبنانيون فعلاً؟

النسبيّة تهزّ التحالفات...

بدايةً، لا شكّ أنّ من الإيجابيات التي حملتها الجولة التي قام بها "التيار الوطني الحر" على مختلف القوى السياسية خلال هذا الأسبوع أنّها أعادت هذا الموضوع الحيويّ، الذي يفترض أن يشكّل أولوية أولويات العهد الجديد، إلى صدارة الاهتمام، بعد أن كانت الشياطين الكامنة في تفاصيل التشكيلة الحكومية قد احتكرتها طيلة الفترة الأخيرة.

ولكنّ استعراضًا بسيطًا للمواقف التي واكبت هذه الجولة يُظهِر بوضوح تمسّك مختلف الأفرقاء بمواقفهم من قانون الانتخاب بغضّ النظر عن خريطة التحالفات التي انقلبت رأسًا على عقب خلال الأشهر القليلة الماضية، ليبقى رصد "المساحات المشتركة" بين الكتل السياسية المختلفة أمرًا صعبًا، لا بل متعذّرًا، اللهم باستثناء مجاهرة جميع هذه القوى بوجوب استبدال قانون الستين النافذ باعتبار أنّه أدّى قسطه للعلى وحان وقت تغييره.

وإذا كان الثنائي الشيعي، ممثلاً بحزب الله وحركة أمل، يرفع لواء النسبية الكاملة بشكلٍ لافتٍ، وهو ما أكّد عليه كلٌ من رئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، حيث اعتبرا أنّ اعتماد النسبية يشكّل المدخل الفعلي للتمثيل الحقيقي والشفاف للمواطنين، فإنّ "التيار الوطني الحر" يجاريهما في ذلك، هو الذي يجد في تطبيق النسبية اندفاعة كبيرة للعهد، يبدو بأشدّ الحاجة إليها، علمًا أنّه لم يحذف قانون "اللقاء الأرثوذكسي" القائم على أساس النسبية، ولو بصبغةٍ طائفية، من حساباته أصلاً.

ولكن، ماذا عن حلفاء "التيار" الجُدُد، ولا سيما "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل"؟

بالنسبة لـ"المستقبل"، الأكيد أنّ النسبيّة مرفوضة على كامل الوطن، بحجّة أنّ السلاح المنتشر في أيدي "حزب الله" سيكون له تأثير كبير على تصويت المواطنين في مناطق نفوذه، بخلاف الوضع في مناطق نفوذ الآخرين، كما يردّد مسؤولو "المستقبل" كلما سئلوا عن الموضوع، علمًا أنّهم يقبلون بإجراء انتخابات على أساس النظام الأكثري في ظلّ انتشار السلاح، وكيف يكون تأثير الأخير محدودًا فقط في حال تطوير النظام.

وإذا كانت "القوات اللبنانية" يمكن أن تبدي ليونة في هذا الموضوع، فإنّ اللافت أنّ "المستقبل" استبق موقفها بتأكيد التمسّك بمشروع القانون "المختلط" الذي كان قد توصّل إليه مع "القوات" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، بوصفه "أقصى تضحية" يمكن للتيّار "الأزرق" تقديمها، علمًا أنّ فكرة القانون المختلط بحدّ ذاتها تثير الكثير من علامات الاستفهام، خصوصًا أنّها قد تكون "سابقة" لا مثيل لها في العالم، من دون أن تُفهَم المعايير التي يمكن أن تُعتمَد لانتخاب عددٍ من النواب وفق نظامٍ أكثري، وزملاء لهم وفق نظامٍ نسبي.

مكانك راوح...

هكذا، تراوح الصورة الانتخابية مكانها من حيث الضبابية والرمادية. "حزب الله" و"حركة أمل" يريدان النسبية بشكلٍ كامل، على أساس لبنان دائرة واحدة إن أمكن، في حين أنّ "التيار الوطني الحر" مع النسبية أيضاً، وإن كان يبدي بعض الليونة، خصوصًا لجهة تبديد الهواجس التي قد تكون كامنة لدى البعض من خلال القانون الأرثوذكسي، المنبوذ من قبل "تيار المستقبل"، الذي يصرّ على أنّ "القانون المختلط" هو "أفضل الممكن"، متموضعًا في ذلك إلى جانب "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" انطلاقاً من النقاشات السابقة.

وفي وقتٍ تبرز بعض الاقتراحات الأخرى كاقتراح الصوت الواحد لكلّ مواطن، الذي سبق أن تبنّاه حزب "الكتائب"، إلا أنّها تبقى "خجولة" إلى حدّ كبير وبالتالي صعبة المنال، يبقى الأكيد وسط كلّ هذه "المعمعة" أنّ التباعد بين القوى السياسية لا يتقلّص يومًا بعد يوم، بل على العكس من ذلك، هو يزداد اتساعًا، رغم ضيق الوقت الفاصل عن المهل الدستورية والقانونية، الأمر الذي يطرح علامات استفهام مشروعة عن النوايا الحقيقية لدى القوى السياسية.

وإذا كان "التمديد" للمجلس النيابي لم يعد يحظى بأيّ موافقة معلنة أو ضمنية من أحد، فإنّ الخشية، كلّ الخشية، تبقى أن تكون نتيجة كلّ هذه "المعمعة" الإبقاء على قانون الستين، تفاديًا لـ"مشكلٍ" لم يحن وقته بعد، وبذريعة "ضيق الوقت"، وهو سيناريو يبقى الأكثر واقعية واحتمالاً رغم كلّ ما قيل ويُقال، بل إنّ هناك من القوى السياسية من يجاهر في الكواليس بأنّه بدأ عمليًا الإعداد للانتخابات على أساس هذا القانون، الذي لن يطول الوقت كثيراً قبل إعلانه "قانون الأمر الواقع"، ولو "للمرة الأخيرة".

وعلى الرغم من إصرار "عرّابي العهد" على أنّ مثل هذا السيناريو سيشكّل "انتكاسة كبرى" للرئيس ميشال عون، الذي وصل إلى قصر بعبدا بشعار "التغيير والإصلاح"، فإنّ هناك من يعتقد بأنّ النظرية القائلة أنّ العهد لن يبدأ عمليًا إلا بعد الانتخابات النيابية، التي يتمّ ترويجها في ما يتصل بالحكومة اليوم، قد تكون مجدية أيضًا في ما يتعلق بقانون الانتخاب، وذلك للقول أنّ العهد يُحاسَب إذا ما عجز عن إقرار قانون انتخاب عصري خلال السنوات القادمة، وليس خلال مهلة ضيّقة كالتي نحن بصددها اليوم.

من يغيّر؟

يبدو أنّ قصة قانون الانتخاب باتت أشبه بقصة إبريق الزيت، حيث لا تمرّ فترة إلا ويُعاد طرحه على الطاولة، من دون أيّ نتيجة تُذكَر. فهذا الأمر حصل بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، واعتُمِد لتبرير التمديدين الأول والثاني للمجلس النيابي، حين وُعد اللبنانيون أن يتحوّل مجلس النواب لـ"خلية نحل" لإقرار قانون جديد، من دون أن يشهدوا على شيءٍ من ذلك.

ولأنّ "المسرحية" مرشحة للتكرار خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فإنّ ما يبدو أكثر وضوحًا من أيّ شيء آخر أنّ الرهان على طبقة سياسية بإنتاج قانون عادل، قد تكون نتيجته حرمانها هي من عددٍ وافر من المقاعد النيابية، قد يكون هو "الخطيئة" بحدّ ذاتها...