منذ لحظة تكليفه تشكيل الحكومة، ورئيسها ​سعد الحريري​ في موقفٍ لا يُحسَد عليه. هو يريد العودة إلى السراي الحكومي بأيّ ثمن، وهذا ما برهنته خياراته السياسية منذ أكثر من سنة، ولكنّه في الوقت نفسه لا يريد تكرار تجربة حكومته الأولى، التي أسقِطت بالضربة القاضية، ما أحرجه فأخرجه من اللعبة السياسية لفترةٍ من الوقت.

ومع ولادة الحكومة بعد نحو 45 يومًا من التأليف، تفاوتت الآراء عمّا حصّله الحريري شخصيًا منها. البعض رآه "رابحًا" باعتبار أنّه تجاوز أخيرًا كلّ العقبات والمطبّات، واستطاع إسناد حصّة وازنة لنفسه وصلت إلى سبعة وزراء بينهم مسيحيان، فيما اعتبره البعض الآخر في المقابل "الخاسر الأكبر"، ويكفي دلالة على ذلك أنّه لا يملك في الحكومة الثلث لا الضامن ولا المعطّل...

"جنّة الحكم

بدايةً، لا شكّ أنّ هناك سلسلة من "الإيجابيات" استطاع الحريري أن يجنيها من إنجاز حكومته الثانية، لعلّ أهمّها بالنسبة إليه هو أنّها سمحت له بالعودة إلى "جنّة" الحكم بشكلٍ رسمي، بعد أن كاد يعيّره البعض بأنّه سيبقى رئيس حكومة مكلّفاً إلى ما شاء الله، وفي وقتٍ هو بأمسّ الحاجة إلى ذلك، كيف لا وقد قدّم من التنازلات والتضحيات في سبيل رئاسة الحكومة، ما لم يقوَ أحدٌ لا من المراقبين السياسيين ولا من العرّافين حتى على التكهّن به.

وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول أنّ مجرّد وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة بشكلٍ رسمي يُعَدّ مكسباً فائق الأهمية بالنسبة له، في ضوء الأزمات المتفاقمة التي يعاني منها على أكثر من صعيد، سواء في ما يتعلق بقاعدته الشعبية والجماهيرية، والتي خسر الجزء الأكبر منها منذ غربته القسرية عن البلاد، وصولاً إلى الخيارات السياسية التي اتخذها والتي لم تلقَ قبولاً داخل بيئته الحاضنة، أو ما يتعلق بوضعه المالي، الذي كاد أن يدفع الرجل إلى إعلان إفلاسه، علمًا أنّ ما حُكي عن "انفراجات" على هذا الصعيد افتقر إلى الدقة، بدليل ما أثير خلال الأيام الماضية عن شكوى مقامة ضدّه داخل السعودية.

وإذا كان الحريري أبدى استعداداً خلال الفترة الأخيرة لفعل أيّ شيء، مهما كان صعباً ومراً عليه، من أجل العودة لرئاسة الحكومة، فإنّ ذلك لم يحصل أيضاً على حساب حصّة "تيار المستقبل" داخل الحكومة، التي أتت لتعزّز "المكاسب" التي يمكن الحديث عنها، فهو حصل على حصّة يمكن وصفها بالوازنة، والمتقدّمة، خصوصًا إذا ما تمّت مقارنتها مع حصص أفرقاء آخرين، والأهمّ من ذلك، أنّه حرص على تمثيل مسيحيي تياره داخل الحكومة، فكان له ما أراد، من خلال توزير مستشاره غطاس خوري، وكذلك عضو كتلته النيابية جان أوغاسابيان، بعدما آثر حزب "الكتائب" عدم المشاركة في الحكومة.

أما الأسماء التي اختارها الحريري لتكون في عداد حصّته الحكومية، فكانت مدروسة هي الأخرى، من الوزير نهاد المشنوق الذي تحوّل إلى "ثابتة حكومية"، وصولاً إلى توزير نوابٍ "مستقبليين" يوصَفون بـ"الصقور"، من أمثال معين المرعبي ومحمد كبارة وجمال الجراح، وقد أراد الرجل من خلالهم التخفيف من وقع "تمرّد" الوزير السابق أشرف ريفي و"معارضته"، خصوصًا أنّ لهؤلاء حيثيتهم الخاصة في الشمال، التي لا تقلّ شأناً عن تلك التي يتمتع بها ريفي، ولا شكّ انطلاقاً من ذلك أنّ الحريري راعى "الحسابات الانتخابية" في توزير هؤلاء، خصوصًا أنّ الاستعداد للانتخابات النيابية يشكّل "الهاجس الأكبر" له في هذه المرحلة، خصوصًا بعد تجربة الانتخابات البلدية غير المشجّعة له إلى حدّ كبير.

"الخاسر الأكبر"؟

ولكن، وأبعد من هذه المكاسب الآنية التي يمكن للحريري المجاهرة بأنّه حقّقها، فإنّ "الخسائر" التي مني بها في حكومته الثانية أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، بشهادة المقرّبين منه قبل الخصوم. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة بادئ ذي بدء إلى أنّ الحريري، الذي حاول "استرضاء" جمهوره، بالحديث عن "مأساة حلب" في تصريحه الأول بعد تأليف الحكومة، لم يستطع "إخفاء" حقيقة "رضوخه" لإرادة "حلفاء سوريا" في تركيب الحكومة، سواء لناحية حجمها وشكلها.

وقد تكون "استجابة" الحريري لمطلب قوى الثامن من آذار بتوسيع الحكومة لتصبح ثلاثينية وحدها كافية للدلالة على ذلك، ليس فقط لأنّ الحريري جاهر منذ اليوم الأول بتفضيله صيغة الـ24 وزيراً فحسب، بل لأنّ هذا التوسيع أدخل إلى الحكومة "الحريرية" جهاتٍ لم يكن يحبّذ تواجدها، على غرار الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولعلّ التدقيق ببعض الأسماء التي تضمّنتها الحكومة يكفي لـ"إحباط" جزء كبيرٍ من جمهور الحريري، الذي قد يعتبر بعض هذه الأسماء "استفزازية"، ولا سيما الوزير يعقوب الصراف، الذي يُصنَّف في خانة رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود، أو الوزير سليم جريصاتي، الذي تسلّم حقيبة العدل، وهو صاحب المواقف المناهضة والمناوئة للمحكمة الدولية.

أما النقطة الأهمّ التي يجدر التوقف عنها فتتمثل بتكرار الرجل لـ"سابقة" وضع نفسه وحكومته تحت "رحمة" خصومه، الذين سيكونون قادرين على توجيه "ضربة قاضية" للحريري وإسقاط حكومته بالضربة القاضية إذا أرادوا ذلك، تمامًا كما فعلوا مع حكومته الأولى، لا بل بأريحيةٍ أكبر، باعتبار أنّهم هنا يمتلكون الثلث الضامن بشكلٍ أو بآخر، وليسوا بحاجة إلى "وزير ملك" يكشف عن نفسه في اللحظة الفاصلة.

وإذا كان مثل هذا السيناريو يبقى "مستبعَدًا" طالما أنّ الحكومة هي حكومة انتخابات، كما قال الحريري نفسه، وبالتالي فإنّها لا يفترض أن تصمد أكثر من بضعة أشهر، ولا مصلحة لأحد من هذا الفريق أو ذاك بتوتير الأجواء عشية الانتخابات، فإنّ المفارقة تبقى أنّ الحريري لن يكون قادرًا وحده على رسم مسار حكومته وسياستها، هو الذي يحتاج إلى وقوف "القوات اللبنانية" والوزير ميشال فرعون إلى جانبه دومًا ليتحكّم بثلث أصوات مجلس الوزراء ليس إلا، الأمر الذي قد لا يكون متوافرًا في ضوء التحالف القواتي العوني، غير القابل للفرط أقلّه قبل الانتخابات النيابية.

مغلوب على أمره...

أراد سعد الحريري العودة إلى رئاسة الحكومة بأيّ ثمن، فكان له ما أراد.

خلال الأشهر المقبلة، سيكون الرجل قادرًا على الاستفادة من "مغانم" السلطة لمعالجه وضعه، مادياً وشعبياً وانتخابياً وسياسياً، وسيسعى لتعويض ما خسره خلال السنوات الماضية.

ولكن، وأبعد من هذه المكاسب، سيكون الرجل "مغلوباً على أمره"، ومضطراً لمسايرة هذا وذاك، وضمنهم شخصيات كان يتجنّب الجلوس معها على طاولة واحدة، لتمرير المرحلة بالتي هي أحسن. فهل يستحقّ الأمر المخاطرة، وتجري رياح الحريري بما تشتهي سفنه، أم يندم في وقتٍ قد لا ينفع فيه الندم؟!