عندما اطلق الرئيس السوري ​بشار الأسد​ شعاره الأخير الشهير: ما بعد حلب يختلف عما سبقها، كان ينطلق من وقائع ميدانية وسياسية ترسم المعادلة السورية الجديدة. الأمر يتعدى جغرافية الشهباء الى رمزية عودة حلب الى حضن الدولة السورية، معطوفة على متغيرات سياسية إقليمية ودولية توّجها الكلام التركي: مصير الرئيس السوري بشّار الاسد يقرره الشعب السوري. اقرار أنقره لم يكن موجودا قبل تحرير حلب. ولا نتائج الاجتماع الثلاثي الذي انعقد في موسكو بين الأتراك والروس والايرانيين كان يمكن ان تتحقق قبل إنجاز حلب. ولا ان يتوقع المبعوث الدولي ستيفان ديميستورا ان يتكرر في إدلب ما جرى في حلب، قبل تطورات الشهباء.

بالطبع يعود الفضل في فرض هزيمة المسلحين الى صمود ​الجيش السوري​ الأسطوري مع الأهالي في جزء من حلب طوال اربع سنوات من محاولات الغزو المسلح وقوارير الغاز المتفجرة والعبوات والقذائف العشوائية. شعب حلب الجبّار منع اجتياح كل المدينة، وصمد امام النار والحصار والترغيب والترهيب. ايضا لحلفاء سوريا من المقاومة اللبنانية الى الروس والايرانيين الفضل ايضاً في تحرير حلب. عشرات الشهداء اللبنانيين سقطوا هناك، وعشرات آلاف الغارات الجوية الروسية استهدفوا المسلحين وشلّوا قدراتهم في الشهباء، حتى جاءت التسوية الاقليمية الدولية في لحظة انشغال الأميركيين بإنتخاباتهم وتداعياتها، والأوروبيين بقلقهم المفتوح جرّاء تمدد الارهاب الى ساحاتهم. هنا استطاعت موسكو فرض التسوية على تركيا. رضخت أنقره للضغوط، ولعبت ورقة حلب بالمساعدة بإخراج المسلحين منها الى إدلب، بضمانة عدم قيام دويلة كردية حدودية معها، وللتفرغ لمحاربة الارهاب الذي يهددها، بعدما وصل التخادم مع تنظيم "داعش" الى نهاية مشواره، وبدأ الصراع التركي-الداعشي يخطو أولى خطواته في مسيرته الطويلة. هذا ما ظهر في الساعات الماضية بحرق وقتل الدواعش لجنود اتراك.

تعرف أنقره انها تملك ورقة الجغرافيا السياسية التي يحتاج اليها الروس والإيرانيون لانها على تماس حدودي مع سوريا والعراق بشكل أساسي، وهي صلة الوصل لخطوط الغاز والنقل والبحر. من هذا المنطلق استطاع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان جذب موسكو وطهران اليه. فهو يريد الا يزيد من اعداد خصومه او اعدائه الإقليميين والدوليين بعد سقوط حكم الاخوان في الدول العربية، وفشل مشروع "الربيع العربي" الذي كان يعوّل عليه لوصول "الاخوان المسلمين" وإمساكهم الساحات العربية من دول المغرب الى المشرق. لذلك أعلن اردوغان استعداده للتسوية مع عاصمتين وقفتا وحيدتين معه لافشال محاولة الانقلاب عليه. اسقط كل عناوين الثورات التي تبناها، وصولا الى الاعتراف عملياً بسقوط مطلب تنحّي الاسد عن الرئاسة السورية. الهدف تغير عند اردوغان من سعيه لتعميم حكم الاخوان عربياً الى حماية ساحته الداخلية من معارضيه (في الطليعة جماعة فتح الله غولن) وضمان سير النظام الرئاسي بسلام ومحاربة طموح الكرد ومجابهة "داعش". لكن الرئيس التركي يسعى لتحسين شروط التفاوض الجاري مع طهران وموسكو. من هنا جاء طرح وزير خارجيته مولود جاويش اوغلو لعنوان خروج "حزب الله" من سوريا "أسوة بباقي الجماعات". لكن المعلومات تتحدث عن وعد روسي-إيراني بضمان اشراك المعارضة السورية في الحكومة الجديدة بعد الحوار مع دمشق.

المعلومات ايضاً تتحدث عن إرسال عدد من المعارضين السوريين بالمفرّق وسطاء الى دمشق لإبلاغ الدولة السوريّة عن رغبتهم بالعودة الى حضنها واستعدادهم لتلبية ما تطلبه الدولة إعلامياً وسياسياً. بعض هؤلاء بدأ يتحضّر للعودة المرتقبة، ومنهم فنانون ومثقفون ورجال اعمال وسياسيون ودبلوماسيون سابقون يتسابقون.

كما تضيف المعلومات أنّ موسكو وعدت عدداً من المعارضين المعروفين بضمان عودتهم الى سوريا لإجراء حوار مع السلطة قريباً. فيما باشرت القاهرة الحديث مع دمشق لعودة معارضين وسطيين مقرّبين من السلطات المصريّة لم يرتموا في الحضن الخليجي طيلة عمر الأزمة، وتريد مصر لهولاء دوراً على حساب المعارضين الآخرين.

مصلحة دمشق تقضي بعودة هؤلاء جميعهم، لأن ذلك يصبّ في خانة فشل الرهان على سقوط "النظام"، واعتبار العودة عن "الخطأ" فضيلة.

فهل يُقدم الرئيس الاسد على اعلان العفو العام عن السياسيين المعارضين؟ وبالتالي يفتح قلب بلاده لضم ابنائها "الضالين" و"التائبين" والطامحين والعائدين والموعودين والمكسورين والراغبين الى الحضن السوري؟. لسوريا مصلحة بفتح صفحة ما بعد الحرب. هذا ما يسرّع الخطى للخروج من الأزمة. قد يعترض مواطن او مسؤول على عودة هؤلاء. لكن ما يصحّ بتسوية وضع المسلح على الجبهة الميدانية، يصح ايضاً بتسوية سياسية مطلوبة الآن اكثر من اي وقت مضى لتعزيز المصالحات. عندها تمضي سوريا نحو الاستقرار من جديد، وعندها فقط ترتاح أنفس الشهداء بإطمئنانهم الى لمّ الشمل الوطني ضد الارهاب في معركة مفتوحة على مساحة العالم وليس فقط ضمن الجغرافية السورية.