بسرعةٍ قياسيّة في تاريخ الحكومات الحديثة، أقرّت حكومة ​سعد الحريري​ الثانية البيان الوزاري الذي ستعمل على أساسه، خلال أقلّ من أسبوعين من ولادتها، استعداداً لنيل ثقة المجلس النيابي بين عيدي الميلاد ورأس السنة، لعلّها تنطلق بشكلٍ رسمي مع انطلاقة العام الميلادي الجديد.

وإذا كانت الحكومة عرفت كيف تدوّر الزوايا وتهرب من النقاط الخلافية في الصياغة اللغوية لمشروعها العام، فإنّ الأكيد أنّ هذه الملفات لن تتأخّر قبل أن تُطرَح من جديد على طاولتها، وعندها ستكون "إنتاجيّتها" على المحكّ، وهنا بيت القصيد الأكبر...

عموميّاتٌ مريحة

لا يحتاج متصفّح البيان الوزاري للكثير من العناء ليستنتج أنّ "العموميات" تكاد تكون سمته الأبرز في مقاربة مختلف القضايا، ولا سيّما الحسّاسة منها، وعلى كلّ المستويات.

ففي موضوع قانون الانتخاب مثلاً، الذي يفترض أن يشكّل أولوية أولويات هذه الحكومة، ولبّ عملها الأساسي، لم يغدق القيّمون على الحكومة "وعوداً" هم يعرفون أنّهم لن يستطيعوا الإيفاء بها، فاكتفوا بالإشارة إلى العمل على قانونٍ انتخابي جديدٍ، من دون تحديد طبيعته سلفًا، خصوصًا لجهة "نسبيّته المُطلقة"، التي تصطدم بمعارضة أفرقاء أساسيين داخل مجلس الوزراء، بينهم رئيس الحكومة سعد الحريري نفسه.

أما في موضوع المقاومة، الذي لطالما أخّر ولادة البيانات الوزارية، فكان "المَخرَج" باعتماد العبارات والمصطلحات نفسها التي اعتمدتها الحكومة السابقة برئاسة تمّام سلام، حيث نصّ البيان على حق المواطنين اللبنانيين بالردّ على الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة، فصُدّق البند بالتي هي أحسن، بتحفّظٍ "يتيم" لم يقدّم ولم يؤخّر من "القوات اللبنانية" التي طالبت بحصر هذا الحق بالدولة اللبنانية دون غيرها.

وإذا كانت "العموميات" التي اعتُمِدت على هاتين النقطتين، شأنها شأن باقي القضايا الأساسية الواردة في البيان الوزاري، ساهمت في تحقيق "الإنجاز" و"السبق"، فإنّ "الإرادة" التي توافرت لدى مختلف مكوّنات الحكومة بعدم المماطلة شكّلت "طبق التسهيل" الرئيسي على الطاولة، بدليل أنّ بند المقاومة لم يحتج لأكثر من "تحفّظ قواتي" ليمرّ، في حين كان يتطلب في الحكومات السابقة جلسات وجلسات قبل أن "يرضخ" فريقٌ لآخر في نهاية المطاف. ولا شكّ في هذا السياق أنّ "خطاب القَسَم" الذي ألقاه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعد انتخابه، والذي أجمع اللبنانيون على "تبنّيه" جملةً وتفصيلاً، قد ساعد في إعطاء "الزخم المطلوب" للبيان الوزاري، الذي أتى منبثقاً منه بشكلٍ كبير، معطوفاً على اللغة العربية الإنشائية، التي تنفع دائمًا في الخروج من الكثير من المآزق.

الإنتاجية على المحكّ؟

في النتيجة، يمكن القول أنّ "البيان الوزاري" للحكومة، وإن أتى عامًا، إلا أنه جاء أيضاً واقعيًا ومريحًا، ليضمن "الثقة" سلفاً لحكومةٍ يبدو واضحًا أنّها تركّز اهتمامها على الانطلاق الفعلي، بعيدًا عن كلّ التفاصيل الثانوية والهامشية على كلمةٍ من هنا أو جملةٍ من هناك، بل إنّ "العموميات" التي اعتمدها تبدو مريحةً للعهد الجديد وللحكومة على حدّ سواء، وتسمح لها بالظهور في جلسات الثقة في المجلس النيابي بمظهر "الوفاق الوطني" الذي ارتضته عنواناً لنفسها.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو، ماذا بعد الثقة؟ وكيف ستنعكس هذه "العموميات" على "الإنتاجية" المطلوبة للحكومة الجديدة، أقلّه لتحقيق مبدأ "استعادة الثقة" الوارد في بيانها الوزاري؟ وماذا لو هزّتها الاختلافات بين مكوّناتها، والتي لا تبدو ببسيطة على الإطلاق؟

كلّ الاحتمالات والسيناريوهات تبقى واردة بطبيعة الحال، فالإرادة الصادقة بإنجاح العهد وانطلاقته قد لا تكون كافية لتحصين الحكومة فعلياً، وجعلها "منتجة" عمليًا، وإن كان عمرها قصيرًا. ولعلّ ما بات يعرفه القاصي والداني أنّ "التحدّي" الأبرز الذي ستواجهه الحكومة هو قانون الانتخاب، وبناءً على ما ستفعله على هذا الصعيد فقط، سيحكم عليها اللبنانيون إما إيجاباً أو سلبًا. ولعلّ "هروب" هذه الحكومة من إعطاء أيّ صفة محدّدة لقانون الانتخاب الذي ستسعى لإنجازه مؤشرٌ لمدى "الارتباك" الذي قد تجد نفسها في قلبه، باعتبار أنّ الخلافات بين مكوّناتها واسعة جداً، بين فريقٍ يصرّ على النسبية المطلقة ولا شيء سواها، وفريق يصرّ في المقابل على رفض النسبية المطلقة مهما كان الثمن، وأفرقاء في الوسط يقترحون قوانين "مختلطة" بين النسبي والأكثري، يمكن إضافتها لسلسلة الابتكارات بل العجائب والغرائب اللبنانية، الأمر الذي يعزّز المخاوف من الوصول في نهاية المطاف إلى تكريس القانون الأكثري الحالي، مع كلّ ما فيه من مساوئ وويلات يقرّ فيها، للمفارقة، الجميع من دون استثناء، بمن فيهم من يعملون في الخفاء على تأمين "ديمومته".

ولأنّ الاختلافات تشمل القضايا السياسية الاستراتيجية، والموقف اللبناني منها، تبقى الخشية أيضًا من أن تستنسخ الحكومة الجديدة "تجارب" سابقاتها في مقاربة الأحداث الإقليمية، خصوصًا عند الاستحقاقات الكبرى، باعتبار أنّ مبدأ "تحييد لبنان" مثله مثل ما كان يُعرَف بـ"النأي بالنفس"، لن يكون كافياً في توحيد الرؤى. ولعلّ التوقف ملياً عند حديث رئيس الحكومة سعد الحريري عن "مأساة حلب" بعيد الإعلان عن تأليف حكومته، في مقابل حماسة أفرقاء في حكومته في التهليل لما يسمّونه "انتصار حلب"، يعبّر خير تعبير عن حجم "التناقض" لا "التباعد" فقط في الرؤى والأفكار، وهو "تناقض" قد لا يكون من اليسير على الحكومة المرور بين "ألغامه" التي قد تصل لحدّ تهديد البنية الحكومية ككلّ، وهو ما حصل في حكوماتٍ سابقةٍ ارتأت لنفسها أيضاً وصف "الوطنية".

التاريخ يعيد نفسه؟

في العام 2009، ترأس سعد الحريري حكومته الأولى. يومها، حمل بيانها الوزاري عناوين كثيرة من بينها تعزيز بناء مؤسسات الدولة وتجديد الثقة بها، منع كل أشكال العبث بالسلم الأهلي والأمن، تعزيز العلاقات مع الأشقاء العرب وتمتين الأواصر التي تشدنا إليهم، الارتقاء بالعلاقات الأخوية اللبنانية-السورية، والأهمّ، اعادة النظر في قانون الانتخابات النيابية خلال مهلة ثمانية عشر شهراً.

وإذا كانت "مفارقة" أن تكون معظم هذه العناوين واردة بحرفيّتها في حكومته الثانية أيضاً، فإنّ "الأمل" يبقى أن لا "تسلّف" بند قانون الانتخاب لحكوماتٍ لاحقة، لانّ الوقت سيكون قد فات، والشعب أخذ العِبَر...