من جديد عادت مسألة ​عشائر البقاع​ الشمالي إلى الواجهة من زاوية قتل الرتيب في ​الجيش اللبناني​ الشهيد علي ماجد القاق حيث تمّت تصفيته في سوريا بعد إستدراجه، ثم جرى تبنّي عمليّة الإغتيال في تسجيل صوتي بحجّة الإنتقام للشاب هادي محمد جعفر، علمًا أنّ هذا الأخير كان قُتل عن طريق الخطأ على حاجز طيّار لجهاز إستخبارات الجيش اللبناني في مدينة الهرمل في 18 أيلول الماضي، حيث كانت وحدة من جهاز الإستخبارات تنصب كمينًا لمطلوبين بمذكّرات قضائيّة، وصُودف مرور الشاب جعفر من دون أن يمتثل لعناصر الدوريّة بالتوقّف، فجرى إطلاق النار باتجاهه فأصيب بجروح خطيرة قبل أن يُفارق الحياة بعد ساعات. فهل ما حدث مُبرّر؟

ليس سرّا أنّ منطقة البقاع الشمالي بشكل خاص تضمّ العديد من العشائر التي تعود جذورها إلى قبائل يمنيّة وأخرى عراقيّة كانت هاجرت إلى لبنان قبيل القرن العاشر بحسب أكثر من مؤرّخ وأستاذ تاريخ، وليس سرًّا أنّ بعض العائلات اللبنانية ومنها كل من آل جعفر، زعيتر، شمص، دندش، علوه، علام، عواد، ناصر الدين، أمهز، مقداد، الحاج حسن، شريف، رباح، علاء الدين، وغيرها لا تزال تتمسّك بتقاليد عشائرية وقبليّة موروثة منذ قرون. وإذا كان بعض هذه التقاليد العشائرية جميل جدًا، ويُضفي لمسة مميّزة على مناسبات الأفراح والأحزان وعند تكريم الضيوف والزوّار، أو يعكس أصولاً وتقاليد إجتماعيّة من الجيّد الإحتفاظ بها كجزء من تاريخ مختلف مكوّنات الشعب اللبناني، فإنّ الكثير من الاحداث والارتكابات تحصل بشكل لا يمتّ بصلة إلى التقاليد والممارسات الصحيحة للعشائر التي تحرّم مثلاً التعرّض للمرأة أو للطفل أو للمسنّ، والتي تفتح مثلاً باب المُصالحة والعفو عن القاتل في حال إعتذاره وتوبته بشكل مباشر عن غلطته، وحتى في أكثر الخيارات سوءًا لا تأخذ العشيرة الأصيلة حقّها سوى من القاتل نفسه إذا كانت جريمته مباشرة ومُتعمّدة وإذا أصرّ على رفض الإعتذار منها ودفع الفدية لأهل الضحيّة.

ولكن هل قتل الأبرياء والأطفال كجريمة قتل "الزيادين" هي دليل رجولة (1)؟ وهل الغدر بعسكري في الجيش لم يفعل سوى تنفيذ أوامر المُشاركة بنصب حاجز لتوقيف مطلوبين من القضاء، له علاقة بشهامة ورجولة العشائر؟ والأمثلة لا تنتهي، علمًا أنّ الإجابة عليها لا تحتاج لاجتهاد، حيث أنّ كل هذه الأعمال لا تُصنّف سوى في خانة الأعمال الإجراميّة والجبانة.

وفي حادث إغتيال الشهيد القاق من عداد مديريّة الإستخبارات في الجيش اللبناني، فإنّ ذيولها كان يجب أن تنتهي منذ زمن، لأنّه بُعيد حُصول حادث مقتل الشاب هادي محمد جعفر عن طريق الخطأ، هاجمت مجموعة مُسلّحة حاجزًا للجيش في محلّة "القصر" في الهرمل بالرصاص وقذائف "آر بي جي". وقد إستوعبت قيادة الجيش "ثورة الغضب" هذه، فلم تقم بأيّ رد فعل، لا بل أرسلت وفدًا من الجيش إلى دارة الفقيد للتعزية، وفتحت تحقيقًا كاملاً بالحادث. واللافت أنّ لا دليل على قيام عناصر الجيش بأي فعل مُتعمّد على الإطلاق، ضُد الشاب جعفر، والمُفارقة أنّ التهمة ضدّ الشهيد القاق لم تكن مبنيّة على أيّ إثباتات، ما يجعل ما حدث جريمة موصوفة مليئة بالغدر والحقد.

في الختام لا بُد من التذكير بدعوة كان أطلقها الإمام السيّد ​موسى الصدر​ إلى أبناء العشائر في منطقة بعلبك – الهرمل في السبعينات، حثّهم فيها على عدم حماية القاتل من قبل أبناء عشيرته، وعلى عدم أخذ الثأر من أقرباء وأنسباء أي مُرتكب، مُعتبرًا أنّ هذه العادات السيّئة تُكرّس الإنقسام وتحول دون تطوّر المُجتمع. حتى أنّه دعاهم إلى أخذ الثأر منه شخصيًا، أو "الإلتحاق بنهر الدمّ المُقدّس في مسيرة الفداء على دروب القدس". وبالتالي، المطلوب من وجهاء العشائر عدم تغطية الزعران والقتلة، بل العودة إلى الأصول والتقاليد الصحيحة للعشائر. والمطلوب من الدولة والجيش العمل بجدّية وبسرعة على توقيف المُرتكبين، ليكونوا عبرة لغيرهم، ولطمث عادات موروثة من أيّام الجاهليّة!

(1) ردّا على مقتل الشاب عدنان شمص إبان أعمال شغب وقعت في الجامعة العربيّة، تمّت تصفية كل من زياد غندور وزياد قبلان في عمليّة إنتقام مروّعة حصلت في نيسان من العام 2007، وأطلق عليها إسم "جريمة الزيادين". وأصدر المجلس العدلي برئاسة القاضي انطوني عيسى الخوري بتاريخ 9/1/2015 حكمه في القضية، مشيراً الى انها "تمت بدافع الثأر انطلاقا من مفهوم شخصي عشائري بغيض، لا يزال سائدا في العديد من المناطق في الجمهورية اللبنانية".