لم يكن يعلم الرئيس التركي ​رجب طيب اردوغان​ انه سيصل الى هذه الورطة في سوريا. هو نفسه من تحكّم بالازمة السوريّة وشرّع حدود بلاده للارهابيين الآتين الى سوريا من قارات العالم. هو نفسه من توعّد دمشق بإسقاط نظام الرئيس بشار الاسد، وضرب المواعيد من شهرٍ الى رمضان. هو ايضا من سلّح او ساهم بوصول السلاح الى مجموعات أصولية تحوّل جزء كبير منها الى حضن "​تنظيم داعش​". هو نفسه ايضاً من أضعف الدولة السورية شمالاً، ما أدّى الى نشوء جماعات مسلحة متفلّتة، وتحرر قوميات كالكرد، وتهجير طوائف كالمسيحيين. ها هو اليوم اردوغان يدفع الثمن الباهظ نتيجة غرق تركيا في مستنقع الأزمة السورية.

اولاً: عجز الأتراك عن ضرب "داعش" في ​مدينة الباب​ شمال حلب. ما ثبّت معادلة سقوط الجيوش النظامية في حرب العصابات الذي تمتهنه "داعش". في الساعات الماضية ارتكب مسلحو التنظيم مجزرة بالدبابات التركية قرب الباب، ما أدى لإرباك الجيش التركي، خصوصا بعد استقالة قائد الهجوم. تبين لأنقره ان الحرب ضد "داعش" ليست نزهة، ما يعني ان كل الوعود التركية سقطت في الباب. ما يضطر أنقره الى الاعتراف بالتعاون مع الجيش السوري، خصوصا ان طلب النجدة من الحلفاء وحلف الأطلسي لن تُترجم على ارض الواقع، لأسباب أميركية تفرض الفيتو على اي تعاون مع اردوغان. الجفاء بين واشنطن وأنقره كبير، يتعدى انفتاح اردوغان على الإيرانيين والروس، الى ما هو ابعد ايضاً من اتهام الرئيس التركي للأميركيين بتدبير أمر الانقلاب عليه ومحاولة تخريب الاستقرار في بلاده عبر جماعة فتح الله غولان.

الهجوم الأميركي على اردوغان استُكمل بفتح النار الكردية على تركيا. في الساعات الماضية أعلن الكرد عن توسيع رقعة الفدرالية في شمال سوريا من منبج الى الحسكة شمالا، والرقة و​دير الزور​ شرقاً. هذا يعني قيام دويلة كردية مقنّعة على حدود تركيا. يبدو الأمر حتى الآن حبراً على ورق. لكنه يثير قلق الأتراك ويعزز مخاوفهم من التمدّد الكردي مستقبلاً. فهل يستطيع الكرد تنفيذ تعهداتهم بفرض الفدرالية على تلك المساحة؟.

الواقع الديمغرافي والجغرافي في شمال وشرق سوريا لا يسمح بالفدرالية الكردية. اولاً، لأن اكثرية السكان من العرب وليسوا اكراداً في الحسكة وعين عرب والرقة والدير. ما يطيح عملياً بالتخطيط الكردي.

ثانياً: لأن الأكراد يخشون من الأتراك من جهة، والدواعش من جهة ثانية. فلا قدرة للبشمركة ولا للشرطة الكردية على القتال ضد الطرفين او احدهما. قد يعمد تنظيم "داعش" الى ارتكاب مجازر بحق الكرد كما حصل يوماً مع الأرمن.

ثالثا": لأن اعتماد الكرد على الأميركيين لا يرتقي الى حد الهجوم واحتلال الاراضي الشاسعة في تلك المناطق، فالقوات الاميركية بالكاد تساعد على صمود الكرد في بعض المناطق. وفي حال أراد الأميركيون الانسحاب لأسباب داخل ولاياتهم، فماذا سيحصل بالكُرد؟ هل يتكرر ما حصل يوماً مع جمهورية مهاباد في كردستان العراق في الاربعينيات؟ يومها أطيح بتلك الدويلة بعد اقل من سنة على إعلانها، بواسطة قوات إيرانية أمرها الشاه بإعدام زعيم الكرد آنذاك قاضي حسين.

كل المؤشرات توحي بأن الأميركيين حركوا الكرد لحشر اردوغان المأزوم في الباب. خصوصا أنّ أنقره تتدرج في التنازل أمام الطلبات الروسية بشأن سوريا. ليُصبح مشروع وقف إطلاق النار في كل سوريا مطلباً تركياً بالدرجة الاولى.

كل ذلك سيدفع اردوغان لمزيد من التنازلات. الإيرانيون يريدونه حليفاً ضعيفاً، والروس يسعون لتجريده من عناصر قوته للإمساك بالدردنيل. والأميركيون يريدون معاقبته في زمن أزمته داخلياً وغرقه في الساحة السوريّة. اردوغان اليوم هو الحلقة الأضعف.