بين عيدي الميلاد ورأس السنة الميلادية حققت السلطة ما لا يتحقق بشهور. بيان وزاري كامل شامل، وثقة نيابية جاءت أفضل الممكن. هذا الانضباط المؤسساتي المُرحّب به دائماً يثير الشكوك. وهذه الرشاقة تستدعي التساؤل. أما تضحية عدد من النواب بحقّهم في الكلام لتسريع إنجاز الثقة، فأمر يثير الريبة والقلق، خصوصاً وأننا على أبواب انتخابات نيابية مفصلية.

تسارع الإنجازات يأتي في إطار تسويات محلية لم تكن ممكنة قبل بضعة أشهر، بدءاً بترشيح رئيس" القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ للعماد ميشال عون للرئاسة، وصولاً إلى خطوة مماثلة أقدم عليها رئيس تيّار "المستقبل" ​سعد الحريري​. صحيح أن تعثراً محدوداً شاب تشكيل الحكومة، إلا أن مسار الأمور لم ينحرف ولو للحظة عن درب التسويات. دخلت الأطراف المحلية بخلافاتها وتموضعاتها المتواجهة مرحلة اختبار حساس لنوايا بعضها البعض، يبدو أن الرابط فيما بينها ​قانون الانتخاب​ العتيد.

التناغم غير المسبوق يوحي بأن النظام الحاكم بمختلف أطيافه ومن يمثله بين أركان السلطة، وفي مؤسسات الدولة، يستشعر خطراً داهماً. الخطر على ما يبدو في قانون الانتخاب النسبيّ الذي تجمع غالبية القوى السياسية على المطالبة باعتماده، احتراماً لقواعدها الشعبية، وتسعى في الوقت نفسه إلى تفريغه من مضمونه، أي من كونه وسيلة لإنتاج سلطة جديدة تؤمن عدالة التمثيل وشرعيته خارج الاصطفافات المهيمنة منذ اتفاق الطائف قبل نحو سبعة وعشرين عاماً.

الأكثرية التي انتخبت رئيساً للجمهورية، ورشحّت رئيساً للحكومة، ومنحت حكومته الثقة، هي ذاتها الأكثرية التي ستصوت لقانون الانتخاب المأمول، المفترض به أن ينتج سلطة بديلة عن الأكثرية الحالية. أمر لا يقنع عاقلاً، أن ترضخ سلطة قائمة وراسخة لمبدَأَي تداول السلطة والمحاسبة اللذين هما عماد الديمقراطية. وكيف إذا كانت الحكومة بلا معارضة وازنة، وأطلقت على نفسها تسمية فضفاضة كـ"حكومة استعادة الثقة"، وأناطت بنفسها مهاماً شبه مستحيلة لتنجزها خلال ستة أشهر، ما يعني أنها تؤسس لعمر طويل في أروقة الحكم. هذه دكتاتورية خالصة لن تكون قادرة على الإنتاج. ومن يراجع بيان الحكومة يدرك تماماً أن تكبير حجر الوعود بالإنجاز مقدمة لتبرير الفشل في تحقيق الحد الأدنى منها، وعلى وجه الخصوص قانون الانتخابات النسبي، علماً أن مصطلح النسبية لم يذكر في البيان الوزاري الذي اكتفى بالمطالبة بقانون انتخابات عادل.

الحكومة الحريريّة وضعت لنفسها إطار عمل أقل ما يقال فيه أنه نموذجي شكلاً مريب مضموناً، من تحفيز الاقتصاد إلى نشر اقتصاد المعرفة وإشراك المرأة وتعزيز حقوق الإنسان وإحياء المؤسسات الرقابية والمضي باللامركزية الادارية، إلى إقرار مراسيم النفط وحل أزمات الكهرباء والسير والنفايات وتسريع الانترنت، إلى لازمة التحرير ومكافحة الإرهاب، وغيرها من الثوابت اللبنانية الرسمية التي تتعاقب الحكومات على ذكرها من باب استذكار حسنات الأموات لا رأفة بالأحياء، ومن دون أن يرف لها جفن على طريق تحقيق الوعود.

يتوافر لهذه الحكومة الغالبية الكافية لإنجاز ما تريد. ويتوافر لها أيضاً الغالبية المطلوبة لتبرر عجزها ولتمرر قانون انتخاب مسخ يعيد إنتاج السلطة ذاتها ولو برداء النسبية. القانون المتداول والأكثر حظاً للإقرار هو القانون المختلط الذي يؤمّن فوز لوائح السلطة حيث تطبق النسبية، وفوزها أيضا في دوائر النظام الأكثري. هذه مهزلة. فالناخب اللبناني "المتجلبب" بقانون الستين" سيجد نفسه في غضون ستة أشهر أمام صندوقي اقتراع في القلم ذاته، واحد نسبي، والثاني أكثري. ولجان القيد ستمارس العدّ بأسلوبين مختلفين في وقت واحد. نحن إلى اليوم لا نضمن التيار الكهربائي في مراكز الانتخاب.

ومن الآن إلى يوم نهاية المهل لإقرار قانون انتخاب أي بعد شهرين، سيعلو الصراخ بضرورة اجراء الانتخابات كيفما أتفق منعاً للتمديد المذموم، وستخفت الأصوات الإصلاحية كي لا تتهم بأنها تؤيد التمديد، ولوكان تقنياً فهو يبقى تمديداً، وذلك بتعهد أن تكون الانتخابات المقبلة آخر انتخابات تعتمد قانون "الستين" السيئ الذكر. لا تتوقعوا أكثر من ذلك من حكومة بلا معارضة. بالطبع سينال اللبنانيون جوائز ترضية حميدة. غداً نشهد مصالحة بين "القوات اللبنانية" و"حزب الله". "وبعده مصافحة تاريخية بين أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله ورئيس الحكومة سعد الحريري. مسار التسويات باقٍ ويتمدد، وبدل التحالف الرباعي تحالف خماسي. النظام يضرب من جديد باسم استعادة الثقة. هذه المرّة يستعيد الثقة بنفسه على حساب الشعب، لا من الشعب.