ساعاتٌ قليلة ويودّع اللبنانيون، ومعهم العالم أجمع، سنةً ميلادية لا تشبه غيرها، منذ عقدٍ من الزمن، سنة فرضوا فيها كلمتهم بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا بعدما راهن الكثيرون على أن يكون ميشال سليمان آخر رئيسٍ ماروني تعرفه البلاد، فأنهوا فراغاً قاتلاً وشللاً مؤسّساتياً لم يسبق له مثيل.

وإذا كان "المنجّمون" بدأوا بـ"احتلال" الشاشات والمنابر، في موعدهم السنويّ، لإطلاق توقّعاتهم وتكهّناتهم، فإنّ الكثير يمكن أن يُقال في السياسة لا التبصير عن السنة الطالعة، واستحقاقاتها الصعبة، هي التي تحمل "تركة" أكثر من "ثقيلة" بعكس كلّ ما توحيه المعطيات ظاهريًا...

عهدٌ جديد...

انتهت سنة 2016 على "عهدٍ جديد" بكلّ ما للكلمة من معنى. بات للبلاد رئيسٌ "قوي" بالمفهوم الشعبي هو العماد ميشال عون، بعدما استطاع أن يجمع "الأضداد" في السياسة حوله، وتشكّلت حكومة برئاسة سعد الحريري أبت أن تنطلق السنة دون أن تكون قد حازت على "ثقة" مجلس النواب بها. وأكثر من ذلك، اختلطت التحالفات السياسية بعضها ببعض، فمات فريقا "8 و14 آذار" سريريًا، وإن أصرّا على النكران.

قد يقول قائل، انطلاقاً من ذلك، أنّ 2017 محظوظة، لأنّها بعكس سابقاتها، لم ترث أجواء سياسية محمومة ومشحونة، ولا فراغاً رئاسياً بدا إنهاؤه أشبه بـ"المعجزة"، ولا شللاً مؤسساتياً كان العمل التشريعي من أبرز ضحاياه. قد يكون ذلك صحيحًا، ولكنّ الأصحّ أنّ هذا الأمر يزيد بل يضاعف من "الحمل" الملقى على عاتق السنة الجديدة، خصوصًا أنّ كلّ شيءٍ مجهَّز لانطلاقةٍ جديدةٍ ومختلفة بل واعدة للعام 2017، وبالتالي فإنّ الآمال المعقودة عليه قد تكون أكثر من طاقته وقدرته على الاستيعاب، خصوصًا بعد ما عانته البلاد من الفراغ وتداعياته المُرّة بل الكارثية على كلّ المستويات.

وإذا كانت طريقة التعاطي مع تأليف حكومة العهد الأولى خيّبت الكثير من التوقعات، بعدما تبيّن أنّها "نسخة طبق الأصل" عن الحكومات المتعاقبة التي سبقتها، حتى أنّه لا يمكن توصيفها بالنسخة "المنقّحة" بالحدّ الأدنى، خصوصًا مع "تناتش" الحقائب والحصص، وصولاً حتى "ابتكار" وزارات غير مسبوقة ليس من باب التطوير والتقدّم بل لتجنّب كأس "وزارات الدولة" المنبوذة من جميع الأفرقاء، فإنّ إصرار المسؤولين على "التنصّل" من المسؤوليات، ورهانهم على "العمل" الذي ستباشره الحكومة مع العام الجديد، والذي ظهرت "تباشيره" في البيان الوزاري الذي صاغته بعناية، أعاد "الاندفاعة" و"الزخم" للعهد، بانتظار "التغيير الحقيقي"، مع حكومة ما بعد الانتخابات، التي اتُفِق على توصيفها بـ"حكومة العهد الأولى".

عام الانتخابات؟!

ومع انطلاقة العام الجديد، كما العهد الجديد، تتّجه الأنظار إلى "الامتحانات الكثيرة" التي تنتظره، تطبيقًا لمقولة "عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان"، وعلى رأسها العناوين التي يمكن إطلاقها على العام 2017 من الانتخابات النيابية المرتقبة، وصولاً إلى مكافحة الفساد، وكلّها عناوين كبيرة وعريضة، قد لا يكون "الإخفاق" من الخيارات المسموح بها في مقاربتها.

عمومًا، قد لا يختلف اثنان على أنّ الانتخابات النيابية المقرّرة في ربيع العام 2017 تشكّل عنوان العام بامتياز ومفصله الأساسي والمصيريّ، خصوصًا في ضوء حملات التشكيك التي انطلقت باكراً في إمكان إجرائها في موعدها، لعدّة أسبابٍ واعتبارات.وإذا كانت الانتخابات البلدية والاختيارية التي حصلت في العام 2016 أنهت مسرحية "الظروف القاهرة"، التي اعتُمِدت مرّتين لتبرير التمديد للمجلس النيابي، فإنّ الخوف، كلّ الخوف، أن يكون ما يسمّى "التمديد التقني" هو "الموضة الجديدة" التي سيتمّ اللجوء إليها.

وفي وقتٍ لا يفترض أن يستمرّ التمديد التقني، كما يوحي اسمه، أكثر من أشهرٍ معدودة، والأهمّ أنّه يجب أن يكون مقروناً فعلاً بآلياتٍ واضحة يوجبها قانونٌ جديدٌ، قد يتطلّب تطبيقه بعض الانتظار، فإنّ هذا القانون قد يشكّل "بيت القصيد الحقيقي"، خصوصًا أنّه، بذاته، يتفوّق في الأهمية على إجراء الانتخابات نفسها، التي يتطلّع اللبنانيون إلى أن تجري وفق قانونٍ انتخابي جديدٍ عصري وحضاري، يضع حداً لقانون الستين الذي تتفق الطبقة السياسية، للمفارقة، على توصيفه بالبالي، تمامًا كما تتفق ضمناً على التمسّك به، حرصًا على عدم نقصان مقاعدها ولو مقعداً واحداً، والأهمّ، حرصًا على عدم فتح الباب أمام وجوهٍ مدنيةٍ جديدةٍ ثبُت أنّ لها حيثيتها التمثيلية والشعبية.

وإذا كانت الانقسامات والتباينات السياسية الدائرة حول هذا القانون "غير مبشّرة"، خصوصًا في ظلّ رفض شرائح واسعة للنسبيّة، بذرائع واهية، كعدم القدرة على تطبيقه في ظلّ انتشار السلاح، في وقتٍ لا اعتراض على النظام الأكثري في ظلّ انتشار السلاح، فإنّ هناك من يوحي بإمكانية الذهاب إلى صيَغٍ "مبتكرة" أقرب لـ"البِدَع" على غرار "القانون المختلط"، الذي قد يكون فريداً من نوعه في العالم، إلا أنّه، مع ذلك، يمكن أن يجسّد "خطوة أولى" في مسار "التغيير"، الذي يجب أن يُبنى الكثير عليه...

أزمة النازحين تابع...

وإلى جانب الأمن، عناوين كثيرة وصعبة يحملها العام الجديد على عاتقه، هو الذي، إن لم يرث الفراغ الرئاسي عن "أسلافه"، إلا أنّه "ورث" عنهم الكثير من الأزمات البنيوية، التي يرزح الوطن في ظلّها، وفي صدارتها أزمة النازحين، المرشحة للاستمرار والتفاقم، في ضوء استمرار الحرب السورية المدمّرة، وعدم بروز ملامح نهاية قريبة وسعيدة لها في المدى المنظور.

وإذا كان "خطاب القسم" الذي أطلقه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لدى انتخابه رئيسًا حمل بين طيّاته بعض "المقترحات الجدية"، خصوصًا لجهة التنسيق مع الدولة السورية لإنهاء هذا الملف، فإنّ الخوف أيضًا أن يُسيَّس، كما حصل في السابق، فتكون النتيجة تجميده على ما هو عليه، خصوصًا في ضوء التباينات داخل مجلس الوزراء حول طريقة التعاطي مع سوريا، وما حصل خلال زيارة مفتي سوريا الشيخ أحمد بدر الدين حسون مؤخراً والضجّة التي رافقتها خير دليل على ذلك، تماماً كما تجنّب رئيس الحكومة سعد الحريري لمجرّد "مصافحة رسمية" للسفير السوري ​علي عبد الكريم علي​، خلال تهاني عيد الاستقلال، ما يؤكد أنّ فريقاً أساسياً لا يرفض التنسيق مع السوري فحسب، بل يتعامل معه وكأنّه "عدو" يُمنَع تطبيع العلاقات معه.

وإلى قضية النازحين، قضايا كثيرة "مرحّلة" من الأعوام السابقة تفرض نفسها على العام الجديد، على غرار الوضع الأمني، وضرورة حفظ الإنجازات التي تحققت، ومنع سقوط الساحة اللبنانية من جديد في يد الجماعات الإرهابية، التي لا تفوّت فرصةً إلا وتُظهِر أطماعها باختراقها، فضلاً عن متابعة قضية العسكريين المخطوفين والوصول إلى الخواتيم السعيدة على خطها، من دون أن ننسى ضرورة العمل على تمتين وتحصين المؤسسات الأمنية والاقتصادية التي ساهمت، باستقرارها، في صمود لبنان في وجه كلّ العواصف على مدى السنوات السابقة...

فسحة أمل...

هو عام الانتخابات بامتياز إذاً ذلك الذي ينتظره اللبنانيون، وعلى خطّه امتحانان كبيران يواجههما العهد الجديد، بين إجراء الانتخابات وإقرار القانون، فإمّا ينجح باجتيازهما ويشرّع الطريق أمام التغيير والإصلاح الذي ارتضاه عنواناً له على كلّ المستويات، وإما يخفق فتكون التداعيات وخيمة عليه قبل غيره.

أشهرٌ قليلة ويظهر الخيط الابيض من الأسود، وبالانتظار، ما على اللبنانيين سوى الأمل، ولو على قاعدة "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"...