ثقيلة كانت بداية السنة الجديدة على لبنان، الذي نال نصيبه الوافر من الهجوم الإرهابي الذي استهدف أحد الملاهي الليلية في العاصمة التركية اسطنبول، حيث سقط له شهداء في عمر الورد، أرادوا أن يحتفلوا على طريقتهم بعيد رأس السنة، فكان الإرهاب لهم بالمرصاد.

وإذا كانت حالة "ارتباكٍ" رُصِدت واضحة وجليّة في مقاربة هذه القضية عبر الإعلام، خصوصًا من خلال انتشار الكثير من الأخبار والأخبار المضادّة حول حالة الضحايا، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو عن طريقة التعاطي الرسمي للحكومة اللبنانية مع الكارثة، وما إذا كانت قد نجحت في اجتياز الامتحان الأول الذي باغتها فجأة، والأهمّ من ذلك، ما هي العِبَر التي يفترض أن تُتّخَذ مستقبلاً.

تعاطٍ مسؤول...

لا شكّ أنّ الحكومة اللبنانية كانت تنتظر انطلاقة العام الميلادي الجديد لتشمّر عن زنودها وتبدأ بالعمل الحثيث، وهي تدرك أنّ الامتحانات التي تنتظرها أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، من الاستحقاق الانتخابيّ المنتظر و​قانون الانتخاب​ المتصل به، وصولاً إلى مكافحة الفساد، ومعالجة قضيّة النازحين وما يرتبط بها من أزمات بنيوية على أكثر من صعيد.

إلا أنّ "الفاجعة" التي أصابت اللبنانيين في الصميم جراء العمل الإرهابي الذي ضرب مدينة اسطنبول التركية فرضت تعديلاً في جدول أعمال الحكومة، التي وجدت نفسها فجأة في قلب امتحانٍ لم تكن ربما قد أعدّت له كما يجب، الأمر الذي انعكس للوهلة الأولى "ارتباكاً"، تمثّل بغياب السلطات الرسمية عن السمع لساعاتٍ طويلة، وعجزها عن تزويد المعنيين بالمعلومات الحاسمة، رغم مناشدات وصرخات العائلات التي فقدت الاتصال بأبنائها وأحبّتها.

وإذا كان مفهوماً ومبرّراً أن تشعر هذه العائلات بالتقصير من جانب الدولة، خصوصًا في مثل هذه الأوقات الحسّاسة، التي لا يمكن لأحد أن يحسدها على موقفها فيها، فإنّه من الممكن القول أنّ الحكومة عرفت كيف تمتصّ الصدمة، وإن ببطء، حيث استنفرت بكامل أجهزتها لمتابعة الوضع، ولم تنجرّ لحرب الشائعات والشائعات المضادة التي انتشرت بشكلٍ غريبٍ عجيب، والتي تظهّرت بشكلٍ كبير في الإعلام، الذي راح بعضه ينشر كلّ ما وقع بين يديه من أخبار، من دون التدقيق بها، لدرجة الحديث عن نجاة عددٍ من الضحايا بعد قفزهم في نهر البوسفور، الأمر الذي لم يراعِ مشاعر العائلات المعنيّة، بل ضاعف من ألمها ومرارتها.

وعلى العكس من ذلك، كان لافتاً حرص الدولة اللبنانية على عدم إصدار أيّ لائحة رسمية بأسماء الضحايا والمفقودين، وعدم الإدلاء بأيّ معلوماتٍ مشكوكٍ بصحّتها، بالتنسيق مع القنصل اللبناني في تركيا هاني شميطلي حصراً، دون غيره من "الشهود" الذين تطوّعوا لتزويد الإعلام ببعض المعلومات التي تبيّن أنّها "مغلوطة" في الغالب، حتى أنّ وزارة الخارجية تجنّبت الإعلان عن أسماء الشهداء اللبنانيين الذين سقطوا في الهجوم الإرهابي قبل معاينة القنصل لجثثهم بشكلٍ ملموس.

ماذا بعد؟

انطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول أنّ الحكومة اللبنانية اجتازت إلى حدّ كبير الامتحان الأول الذي واجهها، وعرفت كيف تتعامل معه من دون أن تقع في فخّ الشائعات والأضاليل. ولكن، في مقابل هذه المسؤولية، كانَ واضحًا أيضًا أنّ الدولة اللبنانية، مقارنةً بدولٍ أخرى هزّها الهجوم، كانت متأخّرة نسبيًا عن غيرها، ففيما كانت الدول الأخرى قد أعلنت نصيبها من الهجوم، لم تكن عائلات الضحايا في لبنان قد تبلّغت الخبر اليقين.

ولعلّ العبرة الأولى التي يجب أن تُتّخَذ، هي تلك التي ألمح إليها رئيس الحكومة سعد الحريري نفسه في نهاية اليوم الماراتوني الطويل، حين تحدّث عن وجوب العمل على وضع خطّة حكومية للاستجابة لايّ حادث يصيب اللبنانيين في الخارج، وقد يكون من المجدي في هذا الصدد تشكيل ما يمكن توصيف بخليّة الطوارئ الحكومية للتعامل مع الكوارث، كتلك التي حصلت، أو تفعيل خلية الأزمة، المفترض أن تكون متأهّبة دومًا لمواكبة مثل هذه الظروف بالسرعة المطلوبة. ومن ثمار مثل هذه الخطوة أن يعرف المواطنون إلى من يلجأون في مثل هذه الحالات، هم الذين لم يجدوا وسيلة لإسماع صوتهم سوى عبر الإعلام، لأنّ لا قنوات مباشرة وواضحة بينهم وبين السلطات الرسميّة، وبينهم من يلجأ لمرجعياته السياسية غير الرسميّة، وهو ما ظهر أيضاً بوضوح في أكثر من محطة.

وإذا كانت هذه الخطوة أيضًا يمكن أن تساعد في تأمين وضمان التنسيق المطلوب بين الوزارات والأجهزة المعنية بشكلٍ كامل، وأن تضع حداً للخطوات الفردية من جانب وزيرٍ من هنا أو من هنالك، بغضّ النظر عمّا يفعله الآخرون، فإنّه لا شكّ أنّ مثل هذا الأمر من شأنه أن يضبط أيضاً الكثير من الظواهر التي يمكن تصنيفها بـ"الشاذة"، والتي ترافق الكوارث في العادة، ولكنّها تضرّ أكثر ممّا تنفع، سواء عبر التعاطي الإعلامي أو الشعبي مع القضية، وهو أمرٌ من البديهي أن ينشط ويسود متى غابت الدولة عن ممارسة دورها الطبيعي.

وإذا كان البعض ذهب لحدّ مطالبة السلطات اللبنانية بإعلان حظر السفر إلى بعض البلدان غير الآمنة، ومن بينها تركيا، فإنّ خطوة من هذا النوع قد تكون صعبة، بالنظر إلى تعقيدات الوضع في المنطقة ككلّ، علمًا أنّ دول العالم بأسره باتت هدفاً مُعلنًا ومشروعًا للإرهاب، والمطلوب وجود إرادة حقيقيّة لمواجهته واجتثاثه من خلال مشروع وحدة حقيقية، بمعزلٍ عن كلّ الخلافات والتباينات السياسية وغير السياسية.

الإرهاب بالمرصاد...

وتبقى العبرة الأساس التي لا يمكن القفز فوقها من كلّ ما حدث، وهي أنّ يد الإرهاب الطويلة التي ارتأت أن تفتتح العام الجديد على طريقتها الوحشيّة لا تزال بالمرصاد للجميع من دون استثناء.

وإذا كان لبنان نجح في تحييد نفسه قدر الإمكان خلال الأشهر الماضية عن هذا الخطر المتمادي، بفضل الجهود التي بُذِلت على غير صعيد وساهمت في حماية حدوده إلى حدّ كبير، فإنّ المطلوب اليوم تعزيز الوحدة الوطنيّة الداخليّة، الكفيلة وحدها بمواجهة كلّ العواصف، مهما اشتدّت وقويت!