على الرغم من كلام العديد من كبار المسؤولين اللبنانيّين أنّ لا بيئة حاضنة للإرهاب وللإرهابيّين وللتكفير وللتكفيريّين في لبنان، فإنّ آلاف التعليقات التي ظهرت إثر مجزرة إسطنبول التي نال لبنان نصيبه منها، شأنها شأن العديد من الدول العربيّة والغربيّة الأخرى، لا يُطمئن، حيث بدا أنّ "الفكر الداعشي" نجح بالتسلّل إلى عُقول الكثير من حملة الجنسيّة اللبنانيّة. وهنا مَكمن الخطر، حيث أنّ البيئة الحاضنة للإرهاب وللتكفير تبدأ من عُقول لا تقبل الآخر كما هو، وتتجرأ على إدانته إنطلاقًا من مُعتقداتها، وتتصرّف من مُنطلق أنّها صاحبة الحق والآخرين على ضلال!

صحيح أنّ الكثير من اللبنانيّين شعروا بأنّ مُصاب من فقدوا أحبّاء لهم في مجزرة إسطنبول الإرهابيّة الغادرة هو مصابهم، وصحيح أنّ الكثيرين تحسّسوا مع عائلات الضحايا والجرحى، وتبدّل مزاجهم من أجواء الفرح إلى أجواء الحزن، إلا أنّ الأصحّ أنّ الكثير من التعليقات التي ظهرت على مواقع التواصل الإجتماعي أيضًا، لاقت الإرهاب التكفيري المسؤول عن مجزرة إسطنبول في منتصف الطريق! فالكثير من التعليقات العربيّة، وكذلك اللبنانيّة-للأسف الشديد، تهجّمت على ضحايا جريمة أسطنبول، وبدلاً من إدانة "الفكر الداعشي" الإجرامي الذي يقتل الناس الأبرياء بكل برودة أعصاب، لأنّه مُغلق على أفكار سوداويّة لا تقبل الآخر وترفض الآخر وتدين الآخر، ولا ترضى إلا بمن يرفع راية الطاعة العمياء والجاهلة فقط لا غير، تحوّل النقاش إلى ما إذا كان مركز السهر "رينا" هو ​ملهى ليلي​ يُقدّم المشروب حصرًا أم أنّه مطعم يُقدّم الطعام أيضًا، وكأنّ في الأولى إدانة وفي الثانية تبريرًا! وتحوّل النقاش إلى ما إذا كان ضحايا مجزرة إسطنبول يستحقّون لقب "شهداء" أم لا، وكأنّ "الشهادة" هي علامة تجاريّة مُسجّلة بجهات وبظروف مُحدّدة، ولا يجوز بالتالي إستخدامها لأبرياء قضوا برصاص الغدر والإجرام من دون أيّ ذنب إقترفوه! وبلغت بعض التعليقات على مواقع التواصل الإجتماعي في لبنان والدول العربيّة، مُستويات مُتدنّية طالت كرامات الساهرين والمُحتفلين في العام الجديد، بتعابير ذمّ مختلفة، لجهة توزيع التهم بالسكر والعربدة والإنحلال الأخلاقي إلى ما هناك من تعابير تسيء لمُطلقيها قبل سواهم، لأنّها لا تدلّ إلا على ذهنيّة رجعيّة مُتمسّكة بأفكار ذكوريّة مُتسلّطة هنا، وبأفكار دينيّة دَيّانة عن غير وجه حقّ هناك، وبأفكار مُسبقة جاهلة للحقيقة هنالك.

فبأي صفة ومنطق يتمّ إدانة شخص يحتفل بنهاية عام وببداية عام جديد في مكان عام مشهور عالميًا بأجواء الفرح والتسلية والبهجة؟ وبأي صفة ومنطق يتمّ إدانة شخص يحتفل مع زوجته، أو خطيب مع خطيبته، أو صديق مع صديقته، أو مجموعة أصدقاء بعضهم مع بعض؟ وبأي صفة ومنطق يتمّ إدانة شخص يأكل أو يشرب، أكان طعامه وشرابه مقبولاً بمفاهيم وبمعتقدات الآخرين أم غير مقبول؟ وبأي صفة يتمّ إدانة شخص يُحب الحياة لكن من دون أن يسمح لحريّته بأن تخدش حريّة وحقوق الآخرين، والتبرير لقاتل ولفكر يفرض مشيئته الظلاميّة بالقوة والبطش والإجرام على كل الآخرين؟!

في الختام، قد يكون من المُفيد الإستعانة بأسطورة "أهل الكهف" للقول إنّ من نشأ مُنغلقًا على أفكار رجعيّة ومُتخلّفة داخل كهفه العائلي والمُجتمعي المُنغلق والمُظلم، لن يفهم يومًا معنى النور، ولن يتمكّن يومًا من عيش حياة الحريّة، ولا من إحترام "الرأي الآخر" و"التصرّف الآخر" من دون إدانات مُسبقة ناجمة من غسل دماغ منذ الصغر، أو من كبت دفين مُتناقل أبًا عن جدّ، أو من مُعتقدات واهمة تحمل في طيّاتها كل الشرّ والعنف والكره للآخر المُختلف. وبالتالي، على المسؤولين اللبنانيّين عدم النوم على الحرير وإخفاء الرأس في التراب، والإدعاء أن لا بيئة حاضنة للإرهاب وللتكفير في لبنان، لأنّ مُطلق أي شخص لا يحترم حريّة ومُعتقدات وتصرّفات وآراء الآخرين، مهما كانت مختلفة وحتى مُناقضة لمعتقداته ولتصرفاته، يحمل في ذاته بذور "الفكر الداعشي" الذي يُمكن أن يتظهّر بأشكال عنفيّة وإجراميّة ما أن تُتاح الفرصة لذلك!