أولى بشائر العهد الجديد جلساتٌ حكومية مثمرة... على هذه الشاكلة ينظر كثيرون الى جلسة مجلس الوزراء الأكثر ثراءً شكلًا ومضمونًا منذ أكثر من سنتين ونصف السنة. هي صفة “الشمولية” تليق ليس فقط بالحكومة الجامعة التي يبدو أفرقاؤها على أكمل اتفاق، بل بما حملته الجلسة المكثّفة وغير الماراتونية قياسًا بما خلصت اليه.

لم ينتظر اللبنانيون جلسة الأمس ليثنوا على أداء الحكومة الجديدة، بل شكّل تحرّك السلطات إزاء المأساة التي شهدتها اسطنبول والتي حصدت ثلاثة براعم شهداء، نقطةً مفصليّة سمحت لكثيرين بقراءة مكتوب العهد من عنوانه، لا سيما متى وصل الحديث الى باحة المقاربة التي تبنّتها الحكومة بالتنسيق مع رئيس الجمهورية لجهة توفير اللوجستيات المطلوبة في أقصى سرعة لنقل الجرحى والجثث والمتابعة “الإنسانية” اللائقة بشبانٍ رحلوا عن هذه الدنيا في لحظات غبطة على يد إرهاب حاقد.

“ضربة معلم”...

أما بعد، ورغم طفرة الملفات الساخنة التي قاربتها الحكومة برويةٍ وحكمةٍ شديدتين بقيادة رئيس الجمهورية ومعية رئيس الحكومة والوزراء، بيد أن العهد الجديد لا يمكن أن يكتمل من منظار القصر بنوع خاص على ما علمت “البلد” من دون استهلال الكلام بعد السلام والصمت بإزاحة رئيس ومدير عام هيئة أوجيرو (السابق) عبد المنعم يوسف وتعيين عماد كريدية المخضرم في مجال الاتصالات خلفًا له. لربّما هي “ضربة المعلم” الأقوى التي يطلق بها الرئيس العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري عهدهما بالركون الى التساؤلات والشكوك التي حامت حول يوسف حدّ بلوغ القضية أعتاب القضاء.

“ثلاثية” أخرى!

لم يكن ملف أوجيرو يتيمًا على دفاتر هواجس القصر وبيت الوسط اللذين يبديان حرصًا صريحًا منذ البداية على أن يكون عهدهما نظيفًا لا بل شديد النظافة وبعيدًا كل البعد من ثلاثيّةٍ مدمّرة لا يمكن التحايل عليها لفظيًا كما حصل في البيان الوزاري إزاء ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة: أولًا النأي عن شخصيات مرتبطة أسماؤها بملفات فساد لجهة التعيينات والاستغناء عن الموجودين أصلًا لصالح أسماء جديدة تضخّ دمًا جديدًا وتعيد الثقة الى نفوس اللبنانيين تماهيًا مع شعار “حكومة استعادة الثقة”. ثانيًا، تجاوز الملفات الخلافية بسلاسةٍ خصوصًا أن الحكومة وفاقية وتحتمل اختلافًا في الآراء لا تصادمًا في الخطوط العريضة تماشيًا مع نيّة الجميع في تسيير شؤون الناس. ثالثًا، تصدير (من صدارة) المطالب الشعبية وشؤون الناس وشجونهم وتبديتها على سائر الملفات التي تحتاج الى مزيدٍ من الدرس كملف الميكانيك وحكاية التنقيب التي طال انتظارها بحيث أفرجت الحكومة امس عن مشروعَي مرسومين بتقسيم المياه البحرية الى مناطق وإطلاق دفتر شروط التراخيص. أما أبرز التجسّدات الشعبية المقصودة والمتفق على جعلها أولوية فانطلقت مع المديرية العامة للدفاع المدني من خلال إقرار مرسوم يرمي الى تنظيمها، فضلًا عن الموافقة على تخصيص مبلغ 20 مليار ليرة من احتياطي الموازنة لوزارة الصحة لتغطية تكلفة نفقات الأدوية التي سُلمت من خارج الموازنة في العام 2016، ناهيك عن إقرار المرسوم المتعلّق بآلية استعادة الجنسية.

اللُبنة الأولى...

صحيحٌ أن الساحة الحكومية بدت شبه متفرّغةٍ للملف النفطي ومشتقاته من لجان تنظيمية وهيئات بترولية وسط اعتراض وزيري “التقدمي الاشتراكي” وهو ما فتح الباب مجددًا على سجال الحصص والتقاسمات، بيد أن الحكومة تبدو جدّيةً في مضيّها في تحقيق ما تستطيع تحقيقه خلال فترة حكمها القصيرة، أو في أحسن الأحوال، على ما تؤكد مصادر وزارية، التأسيس للحكومة المقبلة، فيكون عمل حكومة العهد الأولى بمثابة وضع حجر أساسٍ في بيت إعادة تكوين السلطة على طريق استعادة الثقة التي لا يمكن أن تُنجَز في يوم أو اثنين نظرًا الى ما قاساه الشعب اللبناني معيشيًا وسياسيًا، كما ولا يمكن أن تبقى في إطارها النظري وأن تنطلي عليه إلا لدى انتقالها من مسرح الأقوال الى مسرح الأعمال، وهذا ما سيشهده اللبناني وما قد يُفاجأ فيه رغم أنه أقل واجبات السلطة التنفيذية بيد أن عدم اعتياده على التنفيذ مضمونًا وسرعةً يستولد عامل التفاجؤ ذاك.

الهاجس: استعادة الثقة!

قد لا تصح مقولة “اجتياز الحكومة أوّل اختباراتها” ركونًا الى حقيقة أن تصميم صانعي العهد الجديد على العبور بها الى برّ الأمان الانتخابي الذي لم يغدُ آمنًا بعد في ظلّ تخبّط القانون، يجعل من مشهديات جلساتها هادئة مع بعض التحفّظات القولية نظرًا الى أن ذهنية المحاصصة لن تزول في جلسةٍ أو اثنتين ولا في ممارسة أو اثنتين... وربما أبدًا. بناءً عليه، يبدو إقناع اللبنانيين بجدوى التسويتين التاريخيتين اللتين ولدتا في عامٍ واحد هاجسًا أكبر من تفصيل ما ستتمكّن الحكومة قصيرة العمر من تحقيقه في أشهر... ومع ذلك ستحقّق!