بعد منع الفتيات من التسجيل في أحد سباقات الماراتون في الخيام، وبعد منع الإختلاط في محال الكومبيوتر في جبشيت، وبعد عمليّات إقفال قسريّة لمحال تبيع الكُحول في كل من حولا والبازوريّة والنبطيّة وغيرها، ضجّ الجنوب بقضيّة قديمة-جديدة لم تنته فُصولاً بعد، تتمثّل بقرار يقضي بمنع بيع الكحول في ​كفررمان​، فما الذي يحصل، وما علاقة الحزب الشيوعي بالأمر؟

القصّة بدأت برفع عريضة مُوقّعة من قبل 2,500 شخص قيل إنّهم من أبناء كفررمان التي يبلغ عدد سُكانها نحو 18,000 نسمة، تُطالب بإقفال أربع محال تبيع الكحول في البلدة، وإستكملت بقرار من رئيس البلديّة ياسر علي أحمد في هذا الشأن ضمن مُهلة 10 أيّام كحدّ أقصى، بدعم وتغطية من محافظ النبطيّة محمود المولى. وقد دارت سجالات إعلاميّة بين مُؤيّدي القرار الذين يتحدّثون عن تصرّفات مُتفلّتة وغير مقبولة نتيجة شرب الكحول وحالات السكر، ورافضي القرار الذين أكّدوا أنّ لا سُلطة للبلدية أو للمُحافظ بهكذا نوع من الإجراءات، خصوصًا وأنّها تستند إلى قوانين بالية من عهد الحُكم العثماني، وتعود تحديدًا إلى العام 1910.

وفي ظلّ التهم المُتبادلة بين من يقول إنّ الحريّات الفرديّة في لبنان صارت مُهدّدة، مع تزايد سياسة رفض الآخر المُختلف وإجراءات القمع المُشابهة لتلك التي يعتمدها تنظيم "داعش" بالقوّة، وبين من يتحدّث عن تطبيق للقوانين المرعيّة حفاظًا على الأخلاق العامة وبهدف صون وتحصين المُجتمعات اللبنانيّة التي تتمتّع بخُصوصيّات مُحدّدة، تصاعد الخلاف بين الطرفين، مع تسجيل دُخول أكثر من وسيلة إعلامية على خط الخلاف، تأييدًا لهذا الطرف أو ذاك. ومن بين التساؤلات المُتقابلة التي طرحت، نذكر على سبيل المثال: "كيف يُمكن السماح للمراهقين بشرب الكحول من دون أي ضوابط أو مراقبة؟ وكيف يُمكن السماح لمحال لا تملك رُخصًا قانونيّة لبيع الكُحول بتحدّي رغبة شعبيّة عارمة بمنع ذلك؟ وكيف يمكن القبول بفلتان أخلاقي وبتصرّفات غير مُنضبطة من شبان سكارى طوال الليل وحتى طُلوع الفجر؟" في المُقابل، حملت الردُود كلامًا لا يقلّ قساوة، ومنه مثلاً: "بما يختلف قيام داعش بتطبيق القوانين الإسلامية الصارمة على الجميع بالقوّة في مناطق نفوذها، عن قرار فرض منع الكحول على الجميع في كفررمان وغيرها من مناطق سيطرة حزب الله؟ وماذا سيكون موقف الداعين إلى إحترام خُصوصيّات الأغلبيّة السُكانية في مناطق مثل الطريق الجديدة وطرابلس والنبطيّة وكفررمان وغيرها، في حال خرجت في المُستقبل أصوات تدعو إلى إحترام خُصوصيّات الأغلبيّة السُكانية في جونية أو زغرتا أو سواهما لجهة منع التجوّل بالحجاب مثلا"؟.

وبموازاة هذا السجال المُرشّح للإستمرار في الأيّام القليلة المقبلة، لا بُد من الإشارة إلى أنّه إضافة إلى البُعد الديني للقضيّة في كفررمان، يُوجد بُعد آخر سياسي محض، ويتمثّل في عمليّات تضييق مُستمرّة على ​الحزب الشيوعي اللبناني​ وعلى أنصاره. فإذا كانت قوى سياسيّة عدّة قد وضعت ثقلها لتوزير أحد مُمثّلي الحزب القومي السوري بحجّة أنّه يملك حيثيّة شعبيّة في لبنان، فإنّ هذه القُوى نفسها تضع كل ثقلها لمنع الحزب الشيوعي من نيل أيّ منصب نيابي أو وزاري، وتُحاول قدر المُستطاع إسقاط مُرشّحيه حتى على منصب عُضو بلديّة. وقد حملت العقود الثلاثة الماضية عشرات الأمثلة على هذه الحرب غير المُعلنة على "الشيوعيّين" في لبنان، ليس لأنّهم يُمثّلون "علمانيّة" في التفكير لا تتماشى مع الفكر الديني العقائدي المُغلق فحسب، بل لأنّهم يتمتّعون بحيثيّة شعبيّة واسعة، ولا أحد يُمكنه المُزايدة عليهم بالعداء لإسرائيل وبمقاتلتها بشراسة. وهنا من الضروري الإشارة إلى أنّ للحزب الشيوعي مناصرين كُثر في بلدة كفررمان، كما في العديد من قُرى وبلدات الجنوب ولبنان عُمومًا. وهذا ما أظهرته نتائج الإنتخابات البلديّة في الماضي القريب، حيث خرق الشيُوعيّون مجالس بلديّة عدّة، ونالوا أرقامًا عالية حتى في البلدات التي خسروا المعارك الإنتخابيّة فيها. ومعركة الإلغاء التي تستهدفهم ليست بجديدة، حيث كانت بدأت باغتيال مجموعة من مُقاتليهم، ومرّت بالتضييق السياسي عليهم، وبلغت أخيرًا مرحلة منعهم من الحُصول على أيّ مركز سياسي ذي شأن.

في الختام، قد يرى البعض أنّ قضيّة الخلاف في كفررمان سخيفة برمّتها، ولا تتجاوز الخلاف على مسألة بيع بعض قناني "ويسكي" مع إعتراض محدود من قبل بعض أصحاب المصالح التجاريّة الضيّقة، لكنّ لآخرين كُثر رأي مُختلف، حيث يعتبرون أنّ هناك مُحاولات لإلغاء وُجود الفكر الشيوعي من أساسه، عبر التضييق على مُناصريه بمختلف الأساليب، حتى لو بمنعهم من شرب الكحول! ويُحذّر هؤلاء من أنّ التغاضي عن تفاصيل صغيرة كهذه، يعني تلقائيًا الإنجرار تدريجًا إلى مُجتمعات مُغلقة لا تقبل الآخر المُختلف، مع ما يعنيه هذا الأمر من "متاريس" فكريّة ومعنويّة داخل نفوس المُجتمع اللبناني المتنوّع، ستتحوّل حتمًا إلى "متاريس" فعليّة للحرب والقتال، ما أن يُتخذ قرار بذلك، وهنا يكمن الخطر الأكبر!