لم يعد الأمر مجرّد كلام في الهواء أو شائعات تُطلَق لجسّ النبض. لم يعد كذلك عبارة عن تحليلات وتكهّنات يطلقها البعض، مهما كانت حججهم وأدلتهم قوية ودامغة. فما كان يُقال في الكواليس بات مُعلنًا وشبه رسمي، باعتراف رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ نفسه.

قالها "الحكيم" بوضوحٍ لا يحتمل اللبس. هناك نيّة لدى القوات والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي لخوض الانتخابات النيابية المقبلة سويًا، وهناك إعلانات نوايا بالجملة بين هؤلاء الأفرقاء.

باختصار، هو تحالف رباعي جديد ينشأ عشية الانتخابات النيابية، لينهي عمليًا بشكلٍ مُطلَق فكرة إجراء الاستحقاق على أساس الانقسام السابق بين "8 و14 آذار"، ولكن من هم المتضرّرون منه؟ وكيف يمكن أن يواجهوه؟

أمر متوقّع...

صحيح أنّ مصطلح "التحالف الرباعي" ليس محبّذاً لدى كثيرٍ من اللبنانيين، الذين لم ينسوا بعد التحالف الرباعي الذي أجريت الانتخابات النيابية ما قبل الأخيرة على أساسه، والذي قام بين "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب الله" و"حركة أمل"، وهو تحالفٌ تبيّن بالملموس أنّه كان انتخابياً خالصاً، وانتهى مفعوله بانتهاء الانتخابات بشكلٍ تلقائي.

اليوم، يعود "التحالف الرباعي"، ولكن بصيغةٍ جديدة، مع انضمام اثنين من أشرس معارضيه سابقاً، أي "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" إليه، وخروج "حزب الله" و"حركة أمل" منه، وإن كان الحديث يدور عن "تقاطع انتخابي" سيجري معهما في العديد من مناطق "النفوذ المشترك" التي ينشطان فيها.

وعلى الرغم من استبعاد البعض حتى الأمس القريب إمكانية أن يبصر تحالفٌ عريضٌ من هذا النوع النور، وترجيحهم أن يبقى خلف الكواليس، بحيث لا يتمّ الإعلان عنه رسميًا، أقلّه قبل اتضاح صورة ​قانون الانتخاب​ الذي ستجري الانتخابات على أساسه، هذا إن جرت، فإنّ كلام جعجع في هذا السياق كان متوقّعًا ولم يبدُ مستغرَبًا على الإطلاق، وذلك انطلاقاً من المتغيّرات الواسعة التي شهدتها الساحة السياسية الداخلية في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أفضت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية بـ"مباركة" العديد من خصومه السابقين.

وبعيدًا عن منطق "المؤامرة" وما يشبهها، فإنّ الأكيد أنّ "الهاجس الانتخابي" كان الحاضر الأكبر في كلّ الخيارات السياسية التي اتُخِذت في الآونة الأخيرة، ومهّدت لنشوء مثل هذا التحالف، مهما كابر الأفرقاء وعاندوا، ولعلّ هذا الأمر هو ما يفسّر الكثير من "الغموض" الذي أحاط باللعبة السياسية منذ انتخابات الرئاسة، علمًا أنّ المعنيّين لا يخفون أنّ التفاهمات السياسية التي جرت عشية الاستحقاق الرئاسي شملت، على طريقة "سلّة" رئيس المجلس النيابي نبيه بري، كيفية خوض الانتخابات النيابية، كما القانون الذي ستجري على أساسه.

وعلى الرغم من أنّ صورة قانون الانتخاب لم تتّضح بعد، خصوصًا مع رفض كلّ الأفرقاء علنًا فكرة إجراء الانتخابات على أساس قانون الستين الحالي، أو التمديد للمجلس النيابي، فإنّه ليس صعبًا استنتاج أنّ مثل هذا التحالف لا يستند عمليًا إلا إلى قانون الستين، أو في أحسن الأحوال، إلى قانون مستنسَخٍ عنه لا يختلف عنه إلا في بعض التفاصيل التي لا تقدّم ولا تؤخّر، علمًا أنّ المعنيّين يؤكدون استحالة إجراء الانتخابات على أساس قانون انتخابي جديد يفترض أن يتمّ إنتاجه خلال مهلة ضيّقة لا تتعدّى الخمسة عشر يومًا، وهو ما يتقاطع أيضًا مع ما قاله وزير الداخلية نهاد المشنوق في هذا الإطار في حديثه التلفزيوني الأخير.

من هم المتضرّرون؟

وإذا كان البعض سيحاول بطبيعة الحال الغمز من قناة تغييب الثنائي الشيعي المتمثل بـ"حزب الله" و"حركة أمل" عن التحالف، في استعادةٍ واضحةٍ لتغييب المسيحيين عن التحالف الرباعي السابق، فإنّ الأكيد أنّ الحزب والحركة ليسا "الأهداف المعلنة" لهذا التحالف، ليس لأنّه لن يضمّ على الأرجح أسماء شيعية مناوئة لهما فحسب، بل لأنّهما، في مناطق نفوذهما، ليسا بحاجة للتحالف مع أحدٍ لتحقيق النتائج التي يصبوان إليها، علمًا أنّ هناك من يقول أنّهما أصلاً من يرفضان الدخول بشكلٍ رسمي في تحالفٍ واحدٍ مع "القوات اللبنانية"، رغم الإيجابية التي طرأت على العلاقة معها في الآونة الأخيرة وإن بقيت بلا ترجمة عملية، وما الحديث عن "تقاطع في بعض الدوائر" الذي ألمح إليه جعجع نفسه سوى "المَخرَج" الذي سيُعتمَد لمعالجة هذه الثغرة، بدفعٍ كبير من "التيار الوطني الحر" الذي يتمسّك بـ"حزب الله" كحليفٍ أساسيٍ له.

في المقابل، يبدو واضحًا أنّ المتضرّرين من "إعلان النوايا" الذي نشأ بين "التيار" و"القوات"، في الجانب المسيحي، هم "المُستهدَفون" عمليًا من هذا التحالف، وعلى رأس هؤلاء حزب "الكتائب"، الذي يبدو أنّ هناك من يريده أن يدفع ثمن "معارضته"، وهو الذي لم يتردّد رئيسه النائب سامي الجميل في المجاهرة بأنّ "حرب إلغاء" تخوضها "القوات" في وجه حزبه، الأمر الذي أشعل الصراعات "الافتراضية" بين الحليفين السابقين، والتي لم يعد بالإمكان القول أنّها ستبقى "تحت السيطرة"، خصوصًا متى بدأت "طبول الانتخابات" بالاقتراب.

وإذا كان "الكتائبيون" بدأوا حراكاً باتجاه بعض الشخصيات المستقلّة المنضوية في إطار ما كان يسمّى بـ"مسيحيي 14 آذار"، مهما كان حضورهم الشعبي ضعيفاً أو متواضعًا، فإنّ "احتكار الساحة" في التحالف الجديد لن يكون مقتصرًا على المسيحيين، فاقتصار التمثيل على "المستقبل" سنياً و"الاشتراكي" درزياً له أيضاً دلالاته "الإلغائية" لمعارضيهما، خصوصًا في ظلّ رفض كلا الجانبين لأيّ مشروعٍ انتخابي نسبي، ووقوف حلفائهما إلى جانبهما في ذلك، ما أثار استهجاناً من قبل المعارضتين السنية والدرزية، اللتين استغربتا انخراط أفرقاء مثل "القوات" و"التيار" في مثل هذا المسار "الإلغائي"، وهما اللذان عانيا ما عانياه منه على مدى سنين.

ولا تقف لائحة المتضرّرين عند هذه الحدود، فـ"مستقلو المجتمع المدني" يترأسون اللائحة بطبيعة الحال، خصوصًا بعد تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة التي أظهرت حضوراً قوياً لبعضهم، كيف لا وقد كان بمقدورهم خرق المجلس البلدي في مدينة بيروت لو كان قانون الانتخاب نسبيًا. ولا شكّ أنّ الطبقة السياسية، المتمثلة في هذا التحالف، ستسعى بكلّ ما أوتيت من قوة لقطع الطريق على هؤلاء، لأنّ وصولهم إلى الندوة البرلمانية لن يعكس قوتهم، خصوصًا أنّ الناس لم تختبرهم بعد، بقدر ما سيعكس ضعف الطبقة السياسية الحالية "المجرَّبة" بامتياز...

أمر الانتخابات حُسِم؟!

في الحالات الطبيعية، لا يبدو الحديث عن التحالفات الانتخابية، قبل أشهر من موعد الانتخابات المفترض، سابقاً لأوانه، لأنّ الحملات الانتخابية تحتاج أصلاً لوقتٍ طويلٍ من التحضير.

ولكن، في حالتنا، يبدو الأمر مستغرَباً، لأنّ قانون الانتخاب لم ينجَز بعد، بل إنّ إجراء الانتخابات نفسه غير محسوم، وسط حديث عن تمديدٍ تقني وآخر لسنة كاملة، وما بينهما.

شيءٌ واحدٌ يبدّد هذه "الغرابة"، وهو أن تكون الطبقة السياسية قد حسمت أمرها فعلاً، ولم يبقَ سوى إيجاد "مخرج الإعلان" في القادم من الأيام...