فعلتها "طيور النورس" في عطلة نهاية الأسبوع، وتحوّلت إلى "حديث البلد" بامتياز. حولها، انقسم اللبنانيون على جري العادة، فاستنكر قسمٌ منهم "المجزرة" التي ارتُكِبت بحقّها، والتي لا تنفصل أصلاً عن "الجريمة البيئية" التي تُرتَكَب بحقّ الوطن، كلّ الوطن، في حين لجأ قسم آخر لـ"تبرير" ما حصل، انطلاقاً من منطق "الضرورة" التي حتّمها ما وُصِف بتهديد سلامة الطيران المدني.

وبعيدًا عن صوابية هذا الرأي أو ذاك، ومدى واقعية هذا الطرح أو ذاك، فإنّ الأكيد أنّ "الغموض" الذي أحاط بعملية "صيد النورس"، التي بقيت لفترةٍ طويلة "يتيمة" لا تجد جهة رسمية تتبنّاها، هو ما زاد الأمور تعقيداً، وأوحى أنّ العقلية التي تُدار بها أمور البلاد والعباد لا تزال هي هي، مهما قيل ويُقال.

"ارتباك" وأكثر...

منذ منتصف الأسبوع الماضي، تحوّلت قضية طيور النورس، رغم جديتها الفائقة وخطورتها الظاهرة، إلى "نكتة" بالنسبة للكثير من اللبنانيين، الذين أطلقوا العنان لمخيّلتهم الخصبة، التي تُرجِمت سريعًا عبر التعليقات "الافتراضية" التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. ولعلّ القرارات الحكومية التي صدرت بعد الاجتماع الذي عُقِد في السراي الحكومي يوم الخميس وخُصِّص للبحث في سُبُل المعالجة أتت لتزيد الطين بلّة، رغم أنّ المعنيّين كانوا واضحين بأنّها خطوات معمولٌ بها في أرقى دول العالم وأكثرها حضارة، علمًا أنّ هذه القرارات لم يكن من بينها أيّ بندٍ يتعلّق من قريبٍ أو من بعيد بـ"صيد" الطيور حتى القضاء عليها.

وإذا كان رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط ​محمد الحوت​ مُحِقاً في كون الأولوية يجب أن تكون لسلامة المواطنين والمسافرين، يبقى الأكيد أنّ "الدولة" التي تسعى منذ انطلاقة العهد الجديد للظهور بأبهى حُلّة لم تبدُ كذلك يوم السبت، بل إنّ "ارتباكها" كان سيّد الموقف، حيث غابت عن السمع بشكلٍ كاملٍ، تاركةً اللبنانيين أمام سيلٍ من الأسئلة التي لم يجدوا أيّ جوابٍ عليها، لتظهر من جديد بمظهر المتلكّئ والمقصّر الذي لم يترك أيّ خيار آخر في نهاية المطاف، وهو ما غمز إليه الحوت الذي تطوّع في نهاية "النهار الطويل" لتبنّي العملية بوصفها "أهون الشرّين"، علمًا أنّه لم يكن ممكناً أن يخطو خطوة من هذا النوع من دون الحصول على الدعم المطلوب واللازم من جهات نافذة في الدولة، خصوصًا أنّ الصيد، الممنوع قانونا، حصل بمواكبة أمنيّة غير مسبوقة.

وفي حين بقيت أصوات الناشطين البيئيين والمجتمع المدني دون "صدى"، وهو ما كان متوقّعًا أصلاً، فإنّ ما حصل، إن دلّ على شيء، فعلى أنّ شيئاً لم يتغيّر في "إدارة الأزمات" في لبنان، التي تقوم على معالجة كلّ المشاكل التي تصطدم بها بأسهل الطرق وأرخصها، وفق منطق "بالتي هي أحسن"، والأخطر من ذلك على "السريّة"، وكأنّ هناك قراراتٍ معلنة "لرفع العتب"، في حين أنّ ما يُنفَّذ يُحاك في السرّ، الأمر الذي يطرح عشرات علامات الاستفهام بطبيعة الحال.

تراكمات ولكن!

قد لا يكون عادلاً الحكم سلبًا على "العهد الجديد" انطلاقاً ممّا حصل، باعتبار أنّ أزمة "طيور النورس" التي باغتت الحكومة لم تكن سوى "نتيجة طبيعية" لتراكماتٍ ثقيلة خلّفتها الحكومة السابقة، التي أخفقت في معالجة أزمةٍ خطيرة بحجم أزمة النفايات التي عصفت بالبلاد خلال العام الماضي، ووُصِف تعاملها معها بالفضيحة بأتمّ معنى الكلمة، وكلّ ما نشهده اليوم هو ثمار هذه السياسة غير المسؤولة.

وقد لا يكون عادلاً أيضاً القول بأنّ "العهد الجديد" تعرّض لأول "انتكاسة" له نتيجة ما حصل، باعتبار أنّ الحكومة لم تُعطَ الفرصة حتى الآن لدراسة ملفاتها واتخاذ القرارات المناسبة، علمًا أنّ معالجة أزمة النفايات هي من التحديات المفصلية والأساسية التي ستواجهها، لتعويض الخطايا التي ارتكبتها الحكومة السابقة على هذا الصعيد.

ولكن، ما قد لا يكون عادلاً أكثر من هذا وذاك، فهو اعتماد منطق "مهلة السماح" هذا لتبرير كلّ "الخطايا" التي يرتكبها العهد، الذي يعرف أتمّ المعرفة أنّ "الحمل" الذي ورثه ممّا سبقه أكثر من "ثقيل"، ولذلك فإنّ المطلوب اليوم هو أن ينكبّ على تعويض ما فات، من دون أيّ إبطاء، بدل أن يلجأ إلى ارتكاب المزيد من "الخطايا"، ولو على طريقة "الإكراه لا البطولة"، لانّ ذلك لن يؤسس إلا إلى المزيد من الخطايا، التي تحتّمها المعالجة السيئة وغير السوية لقضايا بحجم الوطن.

وإذا كانت المعارضة، على تواضعها، أكثر من مرتاحة لناحية "الارتباك" الذي ظهر جلياً خلال الأيام الماضية، بعكس انطلاقته القوية والمبشّرة، فإنّ الوقت لا يزال مُتاحًا أمام العهد والحكومة لإعادة تصويب الأمور، وذلك باعتماد مبدأ الشفافية أولاً وقبل كلّ شيء، عبر مصارحة المواطنين، بدل اعتماد سياسة السريّة والسمنة والزيت كما هو حاصلٌ، لأنّ العواقب ستكون وخيمة، وقد يكون تفاؤل المواطنين بالعهد الجديد أول ضحاياها.

"الانتكاسة الكبرى"

لا شكّ أنّ عملية صيد طيور النورس، بالشكل الذي حصلت فيه، كرّست الأساليب الملتوية القديمة الجديدة في معالجة الأزمات اللبنانية، وشكّلت انتكاسة في مكانٍ ما للعهد الجديد، الذي لم يظهر مختلفاً عمّا سبقه من عهود، بعد كمّ الوعود بالتغيير والإصلاح التي أطلقها.

وإذا كان البعض لم يتردّد في إعطاء الدولة "الأعذار التخفيفية"، فإنّ الخوف، كلّ الخوف، أن يكون ذلك مقدّمة أيضًا لتبرير "الإخفاق" في أهمّ تحديات العهد، أي قانون الانتخاب، على قاعدة أنّ التراكمات السابقة فرضت تكريس القانون القديم، علمًا أنّ أيّ أعذارٍ لمثل هذه "الانتكاسة الكبرى" لن تكون مقبولة بالنسبة للمواطن، الذي كاد يعلن يأسه لولا فسحة الأمل الأخيرة....