– لا يمكن لعاقل أن يناقش في حجم التأثير الذي ترتّب على الدخول الروسي على خط الحرب في سورية، وما أنجزه هذا القرار التاريخي الاستراتيجي خلال خمسة عشر شهراً، سواء لسورية أو لروسيا أو للعالم وتوازناته ومعادلاته المقبلة، كما لا يمكن لعاقل أن يتقبّل فكرة أن روسيا كانت تناور عندما قالت بلسان رئيسها ووزير خارجيتها مراراً أنها جاءت تدافع عن أمنها القومي من دمشق، لأن الإرهاب الذي جاء يقاتل في سورية ويتجذّر فيها، ينحدر بعضه الوافر من أصول شيشانية وقرغيزية وأوزبكية تتداخل جميعاً مع الأمن الروسي بطرق متعددة، كما لا يحق لأحد حرمان روسيا من حقها بالتباهي بدورها في الإنجاز الكبير والتحول الذي أحدثته في الحرب في سورية، والتحول المقابل الذي أحدثته الحرب بما تنتهي إليه، بفعل هذا الدور الروسي، في المنطقة والعالم.

– مناقشة كلمات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف «لولا تدخلنا لسقط النظام في سورية خلال أسبوعين أو ثلاثة» مطروحة من زاويتين، الأولى مدى صحتها ومطابقتها للواقع، والثانية مدى ملاءمتها لمكانة روسيا ودورها ونمط علاقتها بحلفائها. وروسيا بالأصل دولة محافظة دبلوماسياً تحرص على الدقة في كلامها الدبلوماسي وتعبيره بأمانة عن الوقائع التي لا تقبل الجدل ولا يمكن أن تنسب للحظة انفعال أو استسهال، كما ان روسيا بالأصل دولة تحرص على تقديم سياستها الخارجية وفقاً لمعايير احترام السيادة قانونياً وأخلاقياً للدول، وفي مقدمتها الشعور بالعزة الوطنية والكرامة والعنفوان، ورفض أي إيحاء بالوصاية والاستخفاف بالمقومات السيادية لأي دولة، فكيف إذا كانت دولة قدّمت، كما قال المسؤولون الروس مراراً، ضريبة غالية عن العالم كله في مواجهة خطر الإرهاب الذي جلبته وفقاً لكلام روسي مقرون بالإثباتات والوثائق، دول كبرى، وكلف مليارات الدولارات وزجّ عشرات آلاف المقاتلين، ولولا صمودها لكان الإرهاب يلعب ويضرب في عواصم العالم كله من واشنطن وباريس ولندن إلى موسكو نفسها، كما قال الرئيس الروسي ووزير خارجية روسيا مراراً. وكيف إذا كانت الدولة المعنية حليفة تريد روسيا لنمط حلفها معها، وقد بلغ أقصى ما يبلغه حلف لروسيا بدولة خارج الاتحاد الروسي، نموذجاً مشجّعاً للغير، خصوصاً للدول التي بدأت تشعر بظلم وهوان العلاقات التي تقيمها هذه الدول مع واشنطن وتحسد سورية على حلفائها، وفي مقدمتهم حلف دمشق مع موسكو، وكلمات الوزير لافروف تصيب بالأذى هذه المفاهيم والمعايير معاً بالأذى.

– في الدقة لم يكن الوزير لافروف موفقاً، فالصحيح القول إن نصر سورية ما كان ممكناً لولا الدور الذي لعبته روسيا، مثله مثل الدور الإيراني ودور حزب الله، أما سقوط سورية فشيء آخر، ولا مجال للتنبؤ فيه، خصوصاً أن السنة وربع السنة لما بعد التموضع الروسي العسكري في سورية لم تكن للدفاع، بل شهدت بالوقائع الانتقال من الدفاع إلى الهجوم بالنسبة للجيش السوري، على ثلاث موجات زمنية، الأولى شمال سورية في ريفَيْ حلب واللاذقية واسترداد الجيش السوري عشرات البلدات والكيلومترات المربعة والمواقع الهامة، انتهت بهدنة شباط 2016، والثانية في مرحلة الهدنة وانتهت باسترداد تدمر من يد تنظيم داعش والثالثة في خريف 2016 وانتهت بتحرير حلب، وليس بينها حالة دفاع لحماية الجيش السوري والدولة السورية من حال هجوم معاكس، بل إن الهجوم المعاكس الذي تعرّض له الجيش السوري وحلفاؤه في ريف حلب بين الهدنة والهجوم الأخير على حلب، فقد كانت روسيا خلاله تقف بعيداً عن تقديم الإسناد انسجاماً مع مقتضيات دورها التفاوضي مع واشنطن وأنقرة أملاً بالتوصل لحل سياسي.

– تقول الوقائع أيضاً إن المخاطر الحقيقية التي تعرضت لها سورية ودولتها وجيشها، لم تكن عشية التموضع الروسي العسكري، الذي يعرف الجميع أنه جاء في سياق توافق على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم بين الحلفاء الروسي والإيراني والسوري، بعدما تمّ التوصل للتفاهم على الملف النووي الإيراني، وزوال مخاطر دخول الأميركيين بمغامرة عسكرية، كانت قد أطلّت برأسها مع مجيء الأساطيل الأميركية إلى المتوسط في صيف 2013، وقررت سورية مواجهتها مكتفية بالدعم المعنوي والتسليحي لروسيا من ضمن تطبيقها اتفاقية شراء سورية أسلحة روسية نوعية العام 2010 وجمّدت موسكو تنفيذها، حينها بناء على ضغوط ووعود أميركية و»إسرائيلية»، تضمن عدم تعرّض سورية لخطر هجوم، وأفرجت عنها موسكو مع التهديد الأميركي بضرب سورية، ووقفت موقفاً تاريخياً يمكن القول إنه منع تعرُّض سورية لخطر حرب، ويكون القول في مكانه، ولا يُحرج ولا يُزعج، ولا تعوزه الدقة، وبعده جاء الحل السياسي للسلاح الكيميائي ثمرة تعاون روسي سوري معلن وثابت وواضح، وفيه من الثبات الروسي مع سورية ما لا يقبل النقاش.

– إن أمكن الحديث عن خطر سقوط سورية، بالاستناد إلى اعتبار سقوط دمشق يحمل هذا المعنى تجاوزاً، لأن سقوط دمشق لن يُنهي الحرب، فثمة مناطق سورية ستواصل القتال ولا يملك أحد التنبؤ بما ستؤول إليه، فإن مثل هذا الخطر لم تعرفه الحرب في سورية، خصوصاً لم تعرفه قبيل التموضع الروسي العسكري، وإن أمكن تسجيل لحظة تاريخية في الحرب تقترب من هذا المعنى فهي في صيف العام 2012، عندما عرفت سورية أكبر هجومين في عاصمتها، مع تفجير مقرّ الأمن القومي واستشهاد قادتها العسكريين والفوضى التي راهن الذين نظموا العملية على توظيفها لإسقاط العاصمة السورية وفشلوا. وبعده بأيام الهجوم الذي شنته جبهة النصرة على مقرّ وزارة الدفاع وأركان الجيش السوري في قلب العاصمة وانتهى بالفشل، وتزامن الهجومان مع انشقاقات عسكرية لضعضة الجيش أبرزها هروب مناف طلاس، وانشقاقات سياسية أبرزها هروب رياض حجاب، ورغم ذلك لم تسقط دمشق ولم تشعر أنها مهدّدة بالسقوط.

– لو سلّمنا عكس الوقائع، بأن سورية كانت مهدّدة بالسقوط فإن اللغة بالحديث عن ذلك، تمسّ السوريين في صميم شعورهم الوطني، وتنال من تماسك حلفهم العاطفي والوجداني مع روسيا، كما تنال من هيبة روسيا كدولة تقيم حساباً لحلفائها وتريد تقديم صورة مغايرة عن مفهوم الدولة العظمى الذي قدّمته أميركا وأفسحت بفشلها الطريق لتقدّم موسكو نموذجها، الذي أحسنت تقديمه، لولا هذه الرصاصات الصديقة التي أصابت سورية بلا سوء نية بالتأكيد، لكنها تؤلم بالتأكيد أيضاً، وبالأخص لأن مصدرها الوزير الذي نحبّ ويحبّه السوريون، ونذكر ويذكرون كيف وصفه كل من أحبّ سورية بالنسر والصقر، والأسد، في دفاعه عن سورية وحقوقها وردّ العدوان عن كرامتها وصحة موقفها وسلامته، وكان ممكناً للوزير في معرض الإشارة إلى أهمية الدور الروسي العسكري، الاكتفاء بالقول إن إسقاط آمال الإرهابيين بجعل سورية بمكانتها الجغرافية ملاذاً وقاعدة انطلاق، قد شكل إسهاماً روسياً لن يُنسى وسيكتبه التاريخ في حفظ الأمن والسلم الدوليين، ويكفي تخيّل الوضع لو لم تتدخّل روسيا وتركت سورية لتشكل قاعدة جذب لهواة الإرهاب من كل أصقاع الدنيا، يأتونها هواة ومنفردين ويعودون منها محترفين ومنظّمين.

– بكل محبة معالي الوزير سيرغي لافروف كلماتك لم تكن موفقة وقد تسبّبت بجرح بلا سبب. رصاصات لم تُصِب هدفاً عدواً. رصاصات لم تنفع روسيا، لكنها أضرّت بسورية، وسنحسبها رصاصات صديقة تحدث في الحروب.