يظنّ البعض أنّ مناوراتهم الخادعة ووضع الناس أمام الأمر الواقع عبر الدهاء والاحتيال السياسي أمرٌ يُسعفهم في كلّ مرة يريدون فيها تلافي المطالب الشعبية المحقة، حفاظاً على مواقعهم السياسية وثرواتهم التي نُهِبت من مالية الدولة وجيوب الشعب. ويتناسى هؤلاء أنّ لكلّ نمط من السلطة ظروفه ولكلّ ظرف وزمن دولة ورجالاً وجمهوراً يتحرك وفقاً لهذه الحال.

ومَن يراجع ما حصل في لبنان خلال حقبة الحريق العربي الراهنة يجد أنّ النار بقيت على حدود الوطن ولم تقتحم دوره وتحرق إنسانه إلا في مناطق محدّدة وأيام معدودة، تمكّن ذوو الشأن فيها من محاصرتها وتسجيل صفحات نجاح لبناني أمني يباهي به لبنان أرقى دول العالم، حيث فرض أمناً في الميدان رغم الصراع السياسي في الأروقة الرسمية والحزبية على حدّ سواء، وكان الأمن اللبناني استثناء للمقولة الذهبية بأنّ «الأمن يصنعه السياسيون ويحفظه العسكريون»، حيث استطاع العسكريون والأمنيون في لبنان وبتعاون وتنسيق مع قوى أمنية شعبية تتمثل بالمقاومة ومحتضنة من جمهور شعبي واسع، استطاعت أن تحقق هذه البيئة الأمنية المميّزة التي جعلت لبنان ينجو حتى الآن من أعتى فوضى مسلحة تضرب المنطقة. فأمن لبنان الحالي لم تصنعه سياسة «النأي بالنفس» الغبية، بل صنعه رجال في الداخل وحاجات قوى خارجية خشيت أن تقامر بأمن لبنان فتحرق أصابعها ومصالحها فيه وفي الإقليم.

لكن هذه النعمة الأمنية والاستقرار الذي نتج عنها وانسحب على السياسة وأطلق الحياة السياسية من عقالها بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة متوازنة وانطلاق العمل التشريعي بشكل طبيعي. هذه النعمة السياسية بحاجة إلى تحصين وحماية يكون بدونها كلّ شيء قابلاً للانهيار. والحماية التي نقصد هي بشكل أساسي العدالة التي يجب أن تسود والحقوق التي يجب أن تصل إلى أصحابها والفساد الذي يجب أن يُجتثّ لتعود مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والقضائية للعمل وفقاً للقانون وتحت سقف الدستور وروح الاتفاق الوطني الذي تمّ التوصل إليه في الطائف العام 1989، وهنا بيت القصيد.

لقد اعتمد اللبنانيون الاتفاق الوطني في الطائف من أجل أن يكون لهم جسراً ينقلهم من حال الاقتتال والفوضى إلى حال الأمن والاستقرار الوطني وأرسى الاتفاق على 3 قواعد أساسية هي: دولة المؤسسات الدستورية الفاعلة واستقلاليتها، وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين مع المحافظة على الطوائف. وكان منطقياً أن يكون التطبيق العملي للاتفاق بما يحقق عملية الانتقال من دولة الأشخاص والقوى الطائفية والإقطاع السياسي إلى دولة المواطن والعدالة والمساواة. لكن التطبيق الأولي للطائف جاء منحرفاً عن ذلك، وقاد إلى تهميش البعض وتضخيم أحجام البعض الآخر واستئثار أشخاص وإلغاء آخرين بشكل غير مقبول حتى، وكيدي في بعض الحالات.

لقد كان رفيق الحريري أحد مكونات منظومة تطبيق الطائف في المرحلة الأولى. وتحمّل مع غيره في الداخل مسؤولية الانحراف عنه، كما اعتُبرت سورية مسؤولة عن الابتعاد عن اتفاق الطائف في مواطن أخرى، ولهذا كان المتضرّرون من هذا الواقع ينظرون إلى كلّ مَن تسبّب لهم بالخسارة بعين الريبة والخصومة إنْ لم نقل العداء، وكان منهم السعي إلى تغيير هذا الواقع بشتّى الطرق في الداخل اعتراضاً وتظاهراً وفي الخارج طلب مساعدة ودعم، وبما انّ للخارج مصالح في لبنان تصطدم هي الأخرى بالواقع الذي كان سائداً، فتقاطعت مصالح الداخل مع الخارج وأنتجت قراراً في مجلس الأمن 1559 قاد إلى تفجير عين المريسة وفتح لبنان على جهنّم باغتيال رفيق الحريري وانطلاق ما أُسمي «ثورة الأرز» على غرار الأسماء التي تصنعها وكالة الاستخبارات الأميركية. ثورة أراد منها الخارج رأس المقاومة وسعى عبرها مَن في الداخل إلى السلطة مدعياً السعي للعبور إلى الدولة.

إنّ الخلل السياسي في الداخل بالتطبيق المنحرف للطائف والذي تمثّل بشكل رئيسي في موقع المسيحيين في السلطة فتح المجال أمام الخارج للتدخل في لبنان حتى انقلبت سفارة أميركا في عوكر غرفة عمليات لتحريك الوضع اللبناني، وانقلب سفير أميركا إلى مفوّض سامٍ للبنان يأمر واللبنانيون الملتحقون به ينفذون. ولو لم تكن للمقاومة قيادة مميّزة وإرادة وقدرات استثنائية لما كان خرج لبنان يومها من خيمة الانتداب الأميركي السعودي، ولما كان أحد يتحدث عن استقلال فعلي ناجز للبنان.

وتكرّر الخطأ عندما كان التطبيق الثاني للطائف بعد قتل الحريري، إذ وبعيداً عن سورية جاء الانحراف أكبر على يد الحريرية السياسية التي لم تتّعظ مما حصل من خلل سابق، بل إنها قامت بتهميش طائفة إضافية في لبنان، وعقدت الأمور أكثر حتى كان انفجار أيار العام 2008 مع ما تسبّب به من انهيارات ومتغيّرات.

في المحصلة نقول إنّ الخلل السياسي قاد إلى التدخل الخارجي فإلى الانفجار الداخلي. واليوم تكاد تتشكل الظروف نفسها عبر فساد يستشري وإصرار على تطبيق منحرف لاتفاق الطائف يضرب المساواة والعدالة ويحفظ سيطرة أشخاص محدّدين على مقدرات الدولة، ويؤكد على حالة الانتفاخ غير المبرّر للبعض والإلغاء غير المبرّر للبعض الآخر وينمّي حالة الاحتقان والمرارة في نفوس شرائح الشعب اللبناني كلها.

وبالمناسبة نقول إنّ ما يمارس في لبنان الآن، من باب التمسك بقانون الانتخاب الظالم والمسمّى قانون الستين، كما يسمّونه ليس حرصاً على طائفة أو أكثر، بل حماية لأشخاص محدّدين يكاد عددهم لا يصل إلى عشرة في كلّ لبنان هم الأمراء الإقطاعيون الطائفيون الذين يعتقدون بأنهم ولدوا قادة ويموتون وهم في منصب القيادة. والسؤال هنا: هل نحرق لبنان ونضحّي به من أجل هؤلاء العشرة؟

إنّ هذا القانون يشكّل خروجاً فاضحاً على اتفاق الطائف في كلّ شيء تقريباً خاصة عدد النواب وكيفية الانتخاب ونظامه وطبيعة التمثيل وأهدافه، وبالتالي نتفهّم جيداً هنا موقف التيار الوطني الحر الذي يطرح المفاضلة بين الطائف وقانون الستين، وهو محقّ في هذا الطرح، فقانون الستين ليس من الطائف في شيء. وهنا نسأل: كيف يأخذ أشخاص في السلطة ما أعطاهم الطائف من صلاحيات ويرفضون ما فرض عليهم القبول به من إصلاحات؟

في العُرف الدستوري المألوف يُقال إذا كان الدستور جامداً ومعقد التعديل والمراجعة من قبل المؤسسات الرسمية، فإنّ الأمر يشكل استفزازاً للشعب ودعوة له إلى الثورة لفرض التغيير. فهل يريد أولئك الأشخاص المتمسكين بقانون ظالم وغير شرعي أن يدفعوا الشعب إلى الشارع في نهاية المطاف؟

إنّ لبنان يمرّ في لحظات قد يستسهل البعض أمرها، ولكن إذا عطفناها على ما يجري في الإقليم من تفجير ونيران، فإنها تثير القلق. في الماضي قال السيد موسى الصدر للحكام «اعدلوا قبل أن تندموا»، فلم يُصغَ إليه وكانت بعد 4 سنوات من قوله فتنة الـ 1975 التي امتدّت بأشكال مختلفة حتى وضع اتفاق الطائف حداً لها، فأخذ من مناصب الطائفة الحاكمة أكثر من نصف الصلاحيات، والآن تتكرّر المأساة ومع أشخاص من طوائف أخرى ونقول اعدلوا وابنوا دولة المواطن قبل أن يبادر المواطن لممارسة حق الشعب في انتزاع حقوقه.

العدل المطلوب يبدأ بقانون انتخاب يراعي ثنائية التمثيل نواب وشيوخ ويؤمّن عدالة التمثيل النسبية على دائرة واحدة أو دوائر موسّعة وتفعيل أجهزة الرقابة والقضاء لمحاربة الفساد وحماية المواطن في حقوقه، وأخيراً تحقيق المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات على كّل صعيد. وعدل يبادر إليه يكون حلّاً من غير خسائر، وهو أفضل بكثير من حلّ تقود إليه النار، فهل نتبصّر ونستبق الخطر؟