لم يكن ينقصنا كلبنانيين جريمة جماعية جديدة تقلق نومنا. كنا نظن أن تاريخنا اكتفى من الدم. هي جريمة أخرى نطوي تفاصيلها، ننساها غداً ونتابع يومياتنا. ونقول عن أي نورس نتكلم. لا بل قد نحسد النورس الذي إن نجا من رصاصنا، تابع تحليقه بكل حرية في الفضاء المفتوح. أما نحن فأسرى هذا البلد الكئيب.

قتل النورس نتيجة طبيعية لمسار اخترناه. لم يخطط أحد منا ليستهدف هذا الطائر المسالم، لكننا كنا نعلم إلى أي منحدر نهوي منذ أن استسلمنا لشريعة الفساد التي تُسير شأننا العام. باتت جريمة اغتيال النورس من الجرائم العادية، نحن نقتل بأعصاب باردة ونعتبر القانون تسلية ذهنية لننجو بفعلتنا، ولابتكار حلول غير طبيعية، حربقة على الطريق الصحيح.

القصة ليست سلامة الملاحة في مطار تتقاسمه الأجهزة الأمنية، وتختلف على اسمه، تارة مطار بيروت وطوراً مطار رفيق الحريري الدولي. وليست في قتل عشرة آلاف طائر نورس وغيرها من الطيور الموسميّة العابرة لسمائنا في هجرتها من الجنوب إلى الشمال في موسم البرد. لن تكون دماء النورس مشكلة بين الذين قتلوا وأخفوا عشرات الآلاف من أخواتهم وإخوانهم خلال سنوات الحرب اللبنانيّة... المسألة كيف انحدرنا إلى هذا القعر الأخلاقي في سنوات السلام الفاسد.

في نظام كنظامنا لم يخطر في بال العقل الأكثر شراً وفساداً أن تتحوّل أزمة رفع ​النفايات​ من شوارعنا إلى أزمات متصلة جعلت البلد مطمراً غير صحي. البداية في "الزبالة" والنهاية بها وبسببها. أزمة القُمامة كشفت عجز السلطة وعرّت النظام. مقابل تقاسم أرباح شركة جشعة أو اعادة توزيع أرباحها على حراس النظام، طمرتنا النفايات وغرقنا في تفاصيل المفاضلة بين المحارق والمطامر الصحية والفرز من المصدر، وصرنا خبراء بوسائل الحرق والتسبيخ والعصارات. وانتشرت صور أنهر الأكياس الزرقاء وجبال البالات البيضاء حول العالم. عجزت الحكومة فحولت الملف من وزارة البيئة إلى وزارة الزراعة وبين الوزارتين طلع العشب على "المزابل".

المجتمع المدني لم يكن أفضل حالاً. عند أول تظاهرة ناجحة انقسم إلى مجموعات ومع أول إطلالة تلفزيونية تبعثر نجومه يشتمون بعضهم البعض.

لا إصلاح ولا من يصلحون. منذ بداية أزمة النفايات قبل نحو عام ونصف ومع تفتح الأعين على مكافحة الفساد والمحاسبة مرّت علينا عشرات الفضائح من دون أن يحاسب مرتكب فعلي واحد. أزمة السير فضيحة عندما تتحول الشوارع مواقف سيارات قسرية بسبب مطعم. وسرقة الإنترنت فضيحة. وكذلك تلزيمات النفايات والكهرباء. وسرقة الأملاك العامة وأموال الضمان والمرفأ والاعتداء على مشاعات البلديات. وخطف المدنيين. والتعذيب في السجون. وتكديس الأرباح بفوائد ديون الدولة. واهمال مستودعات المطار وأجهزة التفتيش. والكذب على المتقاعدين. وعدم التشريع وإصلاح القوانين بقوانين مشوهة مفرغة من مضمونها. وتلزيمات الخلوي والألياف الضوئية والمستشفيات الحكومية وسلامة القمح والدواء. ومن باب توخي الدقة قد لا يكون هنا شأن عام واحد لم ينخره الفساد.

هذا نظام لا يقيم أي اعتبار لأبنائه. المسألة ليست في قتل النورس، بل أننا صرنا مخدّرين أحياء بلا روح. نحن على علاّت النظام، قبلنا التمديد لمجلس النواب مرتين لأسباب قاهرة وليأخذ المشرعون وقتهم في صياغة قانون انتخاب عادل في تمثيل اللبنانيين، وها نحن في الشهر الأخير من مهلة دعوة الهيئات الناخبة ولم نحقق أي تقدم يذكر. لا بل يبدو أننا سنعود الى "قانون الستّين" الأكثري الذي كرّس هذه الطبقة السياسية في الحكم. لا بل هناك اقتراحات بتعديل بعض الدوائر كدمج الشوف وعاليه لتمتين نظام الستين وترسيخ استمرار رموزه. تهريب ​قانون الانتخاب​ سيمر. وسيجد جهابذة السلطة التعليلات اللازمة لضرورة إقراره. وسنصوت للمحادل نفسها كما اعتدنا أن نفعل، وكما اعتدنا قتل العصافير.

إذا ما بقي قانون الستين نافذاً، وما لم تعتمد السلطة النسبية نظاماً وحيداً في قانون الانتخاب، سيتحول لبنان إلى مطمر كوستابرافا كبير يطرد أبناءه كما يفعل بالنورس. لتكون الهجرة إلى الشمال هي الحل الباقي لدى اللبنانيين الأحياء. العهد أمام اختبار قاتل. اما نظام انتخاب جديد يعيد تكوين سلطة شرعية أو على البلد السلام.

*ملاحظة: لا علاقة بين عنوان المقالة وعنوان رواية الأديب الراحل الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".