هل يعيد الرئيس الأميركي الجديد ​دونالد ترامب​ النموذج الاول لبلاده أي صورة "كاوبوي" المبشِّر بقيم ومبادئ جديدة، والقادر على تحقيق أهدافه؟

بدا ترامب انكفائياً الى أقصى الحدود، يعطي الاولوية لبلاده ولمصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. هو يدغدغ مشاعر الأميركيين برفع شعار: أميركا اولاً. قد يُكرّس ذلك الهويات الفرعية على حساب التعاون بين الأمم وتصدّر الولايات المتحدة كبلد سيدٍ للعالم. لا يهم عنده ذاك التصدّر الخارجي، بل المهم هو عدم دفع الولايات المتحدة الاثمان. يريد للآخرين ان يدفعوا لبلاده مقابل اي خطوة يُقدم عليها على مساحة العالم. انه الانكفاء الشديد الى داخل الولايات، مستنداً الى واقع معيشي صعب ركَّز عليه في خطاب التنصيب.

يُسجل للرئيس الأميركي الجديد انه لم يتراجع عن رؤيته، ولم يُبَدِّل خطابه. كأنه صاحب استراتيجية واضحة لم تتأثر بكل الضغوط الداخلية، السياسية، والأمنية، والإعلامية، والنفسية. هذا يوحي بأنه مصرٌ على ترجمة تعهداته. صحيح انه تصالح مع "نيويورك تايمز" وقام بزيارة مكاتبها واجتمع الى هيئة التحرير فيها، بعدما كانت وجهت له الاتهامات القاسية ونالت من سمعته. وصحيح ايضاً انه يتوجه الى "لانغلي" ويزور وكالة المخابرات المركزية بعدما شبهها بالاستخبارات النازية، وبأنها لفقت اخبار التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية، لكنه يتمسك برؤيته السياسية. فما هي؟

عندما تحدث ترامب في خطابه الرسمي عن إستيلاد حلفاء جدد ل​محاربة الارهاب​، هو يقصد بشكل أساسي الاتحاد الروسي. لم تجبره كل الهجمات الداخلية التي طالته على التراجع عن العلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وعندما تحدث عن وجوب استهلاك واستخدام المنتوجات الاميركية اولاً، قصد ترامب مواجهة التمدّد الصيني الصناعي والاقتصادي. الأزمة بين واشنطن وبكين تتصاعد تدريجيًّا.

عندما استحضر جملة المحافظة على العلاقة مع الحلفاء التقليديين، فهو يؤكد بذلك على تمسكه بالعلاقة مع الإسرائيليين والاتراك والأوروبيين. امّا حديثه عن عدم خوض معارك من اجل احد في الخارج، فهو يعني دول الخليج العربي بشكل أساسي.

يريد ترامب محاربة التطرّف الاسلامي كما قال مراراً، من ضمن ذلك سيفك التحالف الذي أقامته الادارة الأميركية مع "​الاخوان المسلمين​"، لا بل سيستهدفهم ويلاحقهم مع افرازاتهم التي صبّت في "القاعدة" و "داعش". هو سيستخدم علاقته مع روسيا لخدمة هذا الهدف. هذا يعني ان الرئيس الأميركي الجديد سيُطلق يد موسكو في شرق المتوسط. روسيا سعت لقبول أميركي بها لاعبا دوليا. ترجمت ذلك في الساحة السورية بعرض تقاسم النفوذ مع واشنطن، وهذا ما أثار ريبة الإيرانيين. ترامب نفسه يشجع على ان تلعب روسيا الدور من دون ايران، لا في سوريا، ولا في العراق، ولا في دول اخرى، لاعتبارات لها علاقة بإسرائيل. هو يودّ تقليص النفوذ الإيراني والدفع بإتجاه تسوية الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين. هنا المهمة الاصعب امام ترامب الذي سبقته تصريحاته عن رغبة بنقل السفارة الاميركية الى القدس.

الخطر الأكبر يكون على دول الخليج في حال مارست الادارة الاميركية سياسة الانكفاء عنها. ماذا سيحلّ فيها بعد الغرق في وحول اليمن؟ خصوصا ازاء تصدُّر المجموعات المتطرفة وتمددها في دول عدة. لن تقتصر حينها الأزمة على الدول الخليجية، بل ستطال التداعيات الاقتصادية كل الدول العربية من دون استثناء. لا مصلحة للمنطقة بأي ازمة في الخليج مهما كان نوعها وحجمها. الاستقرار في الدول الخليجية الآن يؤمّن إمدادات مالية الى لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر ودول المغرب. من دون تلك الإمدادات يُصاب الاقتصاد اللبناني بخسارة مداخيل اليد اللبنانية العاملة في دول الخليج العربي. كذلك الحال في دول عربية اخرى. قد يكون التأثير الأكبر في سوق النفط.

كل ذلك يوحي بأن المرحلة الجديدة تحمل معها متغيرات. اول من تنبّه للامر تركيا التي أجرت مصالحة مع الروس وطوَّرت علاقاتها مع موسكو الى حدود التنازل في سوريا، كما بدا في حلب، او في عدم مقاربة ملف الرئاسة، بإنتظار ما سيحمله مؤتمر الآستانة من تحولات جوهرية بتموضع المجموعات المقاتلة. على الأقل باشرت انقرة استصلاح مجموعات مسلحة لفرضها في التسوية السياسية بعد فشل الرهان على تغيير سوري بالقوة العسكرية. الاستصلاح يخدم الأتراك خصوصا في عهد أميركي جديد يبني سياساته الخارجية على أساس الموقف من التطرّف الاسلامي ومحاربة الإرهاب.