لم ينسَ ال​لبنان​يون بعد اسم ​أحمد الأسير​، ذلك الإرهابي الذي تستّر بصفة "شيخ" لينفّذ أجنداتٍ غريبة ومشبوهة، فيحرّضهم على بعضهم البعض، ويزرع الفتنة فيما بينهم، مستفيدًا من غياب الدولة وانهيارها بأتمّ معنى الكلمة، ومستغلاً "تعاطف" شريحةٍ اعتقدت لوهلةٍ أنّه يمثّلها خير تمثيل، بل أنّه يجسّد "مظلوميّتها" بشكلٍ أو بآخر.

مع أحداث ​عبرا​ الشهيرة التي خاضها الأسير في وجه ​الجيش اللبناني​، ومع توقيفه في وقتٍ لاحقٍ من قبل ​الأمن العام​، قيل أنّ الظاهرة "الأسيرية" انتهت، أمرٌ تكذّبه يومًا بعد آخر معطياتٌ تؤكد أنّ "شبح" الرجل، الذي تسير محاكمته ببطءٍ شديد، لا يزال حاضرًا عبر أنصاره المنتشرين في أكثر من بقعة...

أتباعٌ إرهابيون...

فيما تشهد محاكمة الإرهابي أحمد الأسير "مماطلة" غير مفهومة، عبر تأجيلها مرارًا وتكرارًا، الأمر الذي يرسم علامات استفهام كثيرة حول "تسويةٍ ما" تُحاك في الكواليس،لا تزال ظاهرته، التي حاول البعض التقليل من حجمها يومًا عبر وصفها بـ"القنبلة الصوتية" ليس إلا، تترجم نفسها يومًا بعد آخر، عبر ظهور "أتباعٍ" له وهم يمارسون الإرهاب بأبشع وأوحش حلله.

بالأمس، عاد اسم الأسير إلى الواجهة بموجب العملية الأمنية النوعيّة التي تشاركت "بطولتها" مديرية المخابرات في الجيش اللبناني وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، من خلال توقيف الإرهابي ​عمر العاصي​، وهو من أتباع ومناصري الأسير، قبل لحظاتٍ من تفجير نفسه بالمدنيين في أحد المقاهي الشهيرة في منطقة الحمرا في بيروت.

وإذا كان العاصي فشل في ارتكاب "المجزرة" التي كان يخطّط لها، فإنّ "زميلين سابقين" له في المدرسة "الأسيرية"، هما معين أبو ظهر وعدنان المحمد، نجحا في ذلك، عندما فجّرا نفسيهما أمام ​السفارة الإيرانية​ في بيروت، فأوقعا عددًا من الشهداء والجرحى، بينهم مدنيّون صادف مرورهم من المكان في تلك اللحظة "المشؤومة".

وتطول لائحة "أتباع" الأسير الإرهابيين الذين تحوّل الكثير منهم، بعد توقيف "قائدهم" إلى تنظيماتٍ أشدّ خطورةً وتطرّفاً مثل "داعش" و"​جبهة النصرة​" و"​كتائب عبد الله عزام​"، وبين هؤلاء مطلوبون ومتوارون عن الأنظار وجدوا "ملاذاً آمنًا" لهم في بعض المناطق، التي لا تزال للأسف "عصيّة" على الدولة وقواها الشرعيّة، ولكن بينهم أيضًا، وهنا الأخطر، من يتستّر بصفته "المدنية" بانتظار "اللحظة المؤاتية"...

المواجهة المطلوبة...

قد لا يكون أحمد الأسير مسؤولاً شخصيًا عن العمليات الإرهابية التي يمارسها أنصاره وأتباعه، خصوصًا بعد توقيفه، إذ فقد الدور التوجيهي واللوجستي الذي كان يلعبه في السابق، ولكنّه دون أدنى شكّ يتحمّل مسؤولية "غسيل دماغ" الكثير من الشباب، وخصوصًا الصيداوي، الذي وقع في وقتٍ من الأوقات "ضحية" الإرهاب الفكري لـ"الشيخ"، الذي لا يمتّ للدين وتعاليمه بصلة.

ولا شكّ أنّ المسؤولية السياسية في نموّ الظاهرة "الأسيرية" وتضخيمها واضحة بما لا يحتمل اللبس، وخير دليلٍ على ذلك الصورة التي انتشرت بالأمس للنائب ​بهية الحريري​ تزور الإرهابي العاصي في المستشفى بعد إصابته في اشتباكٍ مع عناصر "​سرايا المقاومة​" عشيّة أحداث عبرا، علمًا أنّها لم تشكّل مفاجأة مدوية لأحد، باعتبار أنّ "الاحتضان السياسي" الذي حظي به الأسير نفسه في مرحلةٍ معيّنة، من قبل جهاتٍ نافذةٍ في الدولة كما من قبل تياراتٍ سياسيةٍ معروفةٍ قبل أن ينقلب عليها، لم يكن يومًا موضع شكّ، وإن أثارت الريبة منذ اليوم الأول.

ولعلّ المطلوب اليوم من هذه التيارات، قبل غيرها، أن تتصدّر مشروع "المواجهة"، من الناحية السياسية والفكرية أولاً، بالنظر إلى الخطر الكبير الذي تمثّله عليها الظواهر التكفيرية والمتطرفة التي ولدتها الظاهرة "الأسيرية" وما يشابهها من فكرٍ إقصائي إلغائي منتشر على امتداد المنطقة، وهو فكرٌ لا يمكن التصدّي له إلا بفكرٍ مُضاد، قوامه الاعتدال الحقيقي والانفتاح على الآخر. والمطلوب من هذه القوى أن تضغط للمواجهة الحقيقية انطلاقاً من تسريع محاكمة أحمد الأسير أولاً، خصوصًا في ضوء ما يُحكى لتبرير البطء الحاصل في سياق محاكمته بـ"التسويات" التي يتمّ انتظارها، وصولاً إلى حدّ الحديث عن "عمليات تبادل" قد تحصل، وقد يكون الأسير وأزلامه وأتباعه جزءاً منها.

وإذا كانت الأجهزة الأمنية، على اختلافها وتنوّعها، تقوم بما هو مطلوبٌ منها وأكثر في مشروع المواجهة هذا، وهي التي نجحت حيث عجزت أقوى الدول وأكثرها تقدّماً، فإنّ المسؤولية السياسية في "إطلاق يد" هذه الأجهزة أساسية وجوهرية هنا، خصوصًا في ظلّ العهد الجديد وتطلعاته، إذ لا يمكن أن يصدّق عاقلٌ أنّ جهازاً أمنياً يعرف المكان الذي يختبئ فيه بعض المطلوبين ولا يقوى على الدخول إليه للقبض عليهم، انطلاقاً من خلفياتٍ واعتباراتٍ وحساباتٍ يبدو أنّها أصبحت أقوى من الدولة نفسها...

ماذا بعد؟

لم يبقَ فريقٌ سياسيٌ إلا وأشاد، خلال الساعات القليلة الماضية، بالإنجاز الأمني النوعي الذي تحقّق بإحباط عملية انتحارية قبل تنفيذها بلحظات، معطوفًا على إنجازاتٍ من الطراز نفسه حقّقتها مختلف الأجهزة الأمنية خلال الأسابيع الماضية.

ولكن، أبعد من هذه الإشادة التي لا تقدّم ولا تؤخر، قد يكون المطلوب من القوى السياسية أن تتوّج الإنجازات الأمنية بإنجازاتٍ سياسية لم تعد المماطلة خياراً إزاءها، أقلّه حتى لا تضيع كلّ الجهود الأمنية سُدىً...