غدًا يغيب المطران الياس نصّار رسميًا عن أبرشيّته. لن يكون ابنُ الكنيسة الشاب الجريء ذو العينين الملوّنتين و”الطباع الملوّنة” - كما يحلو لبعضهم توصيفه- في صرحه الديني في صيدا ودير القمر. ليس ارتباط اسمه بالدعاوى والجدل وليد اليوم، بيد أن الأمس حمل له من الفاتيكان خبرًا غير سارٍّ يقضي بتنحيته عن أبرشيته في مهلةٍ أقصاها غدًا.

لم يكن المطران نصّار عاديًا في غير يوم ومناسبة. كثيرًا ما اقترنت إطلالاتُه وعظاتُه بمواقف “صادمة” لم يستسغها القواتيون يومًا ولا الاشتراكيون من بعدهم، وهو ما حدا بكثيرين الى تعزيز الرابط بين عزله ومواقفه السياسية الحادة، في وقتٍ ينأى كثيرون من عارفيه ومعاشريه عن هذه الفرضيّة بذريعة أنها مجرّد شمّاعة لتسويغ أفعال أخرى لا يعرفها الرأي العام أو يعرفها ويتكتّم عنها تلافيًا لنشر “الغسيل” الكنسي على السطوح وهو ما يضني بكركي ويزرع في نفس سيّدها مزيدًا من الغُصّات.

“عملة” كهنة... وبكركي براء

ما حقيقة ملفّ المطران نصّار؟ في بكركي تكتُّمٌ شديدٌ وحرصٌ على عدم التعليق الى أن تنجلي الصورة جيدًا ويُفهَم من مراجعة المطران نصّار الموجود في الفاتيكان جدواها من عدمها، لا سيّما أن قرار الفاتيكان مبرم ولا يجوز فيه الاستئناف. ما رُسِم للمطران نصّار إذًا قد رُسِم. ربما هو ما جناه من مواقفه وربما هو مفعول ما حيك له، أيًا يكن يبقى الأكيد أن بكركي ورغم أنها معنيّة مباشرة بهذه المسألة كون عمل نصّار يقع تحت سلطتها المباشرة، بيد أنها ليست من يقف وراء إثارة ملفّه على ما علمت “البلد”، رغم أن سيّد الصرح حاول تنبيه المطران نصّار غير مرّةٍ مضيئًا على بعض الامتعاضات والشكاوى التي ترده من بعض كهنة الأبرشية، بيد أن الراعي لم يكن في استطاعته الوقوف هذه المرة في وجه ما يقارب 30 كاهنًا من الأبرشية وفق معلوماتٍ لـ”البلد” رفعوا شكوًى موثّقة ومقرونة بالمستندات مطالبين فيها بتجريد نصّار من مهامه في هذه الأبرشيّة. وهكذا حصل فعلًا، إذ تبلّغ نصّار رسميًا من السفير البابويّ في لبنان المونسنيور غبريال كاتشا بضرورة ترك أبرشيته والتنحي عن رعايته لها.

ضبابية...

ظالمًا كان نصّار أم مظلومًا، تتداخل المقاربات حيال ملفّه ويبقى بعض المتضامنين معه صوتًا صارخًا في ضمير بكركي، تمامًا كما تضجّ ذاكرتها القريبة بوابل من الكتب والشكاوى الواردة اليها عن سلوكيات “غير مقبولة” للمطران نصّار، عدا عن المواقف السياسية المعلنة ولعلّ أكثرها قسوةً تلك التي نعت فيها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بـ”المجرم والقاتل” في قداس اغتيال داني شمعون في دير القمر، قبل أن يجاهر صراحةً بدعمه للعماد ميشال عون للوصول الى الرئاسة، ويستفزّ النائب وليد جنبلاط أخيرًا بدعمه النسبيّة وبتقزيم دوره في الجبل المسيحي “الذي ما زال مهجّرًا”، وقبله فتورٌ على خلفية حلم توسيع المطرانية واستغلال رجال جنبلاط المناسبة لتلفيق ملف مالي ضدّه... كلّ ذاك الكلام لا يُطعم خبزًا عندما تتضح بعض الصور المرتبطة بمصالحةٍ بينه وبين جعجع غداة طيّ الرابية ومعراب صفحة الحقد بتفاهمٍ تاريخي، لتبقى التساؤلات حائمةً حول توقيت نقله والكلام الكثير الذي يُوظَّف الملف ويُستغلّ من خلاله.

ثمن سلوكيات أم مواقف؟

صحيحٌ أن بكركي تبدو بعيدة كل البعد عن كلّ ما يمسّ بهيبة الكنيسة وتاريخها العريق، وكلّ ما يُنشي الشمّاتين ويُضعِف إيمان أبناء البيعة برجالاتها، بيد أن المشاكل تلاحقها من كلّ حدبٍ وصوب. فمن المونسنيور منصور لبكي الذي ما زال ملفّه عالقًا وغير مفهومة حيثياته وتفاصيله، الى الأب طوني الخولي (ربيع الخولي) الذي شكّل قرار رحيله أو تنحيته صدمةً لدى المؤمنين وعارفيه، وصولًا الى المطران نصّار الذي تحتاجُ قضيّته الى مزيد من التمعّن والتدقيق حرصًا على سمعة الكنيسة أولًا، وعلى عدم ظلمه ثانيًا بأقوالٍ منها ما قد يصدق ومنها ما لا يعدو كونه إشاعات وتسريبات حاقدة. حتى الساعة، ورغم كلّ ما أشيع، لا يضع عارفو المطران نصّار وحتى من هم ليسوا على وفاقٍ معه “في ذمّتهم” تصديق كلّ ما يُقال عن فضائح مالية منها المرتبط ببيع ذهب الأبرشية لضروراتٍ كنسيّة، ومنها التبذير في مشروعَي جزين والرميلة السكنيَّين، خصوصًا أن لا أدلة جازمة على ذلك. تمامًا كما تبدو حكايا “التحرُّش” المعهودة مجرّد مسرحية لابتلائه او في أحسن الأحوال أبسط الذرائع لتلفيق ملفّ حول كاهنٍ أو مطران لعزله. ولكن ما لا يمكن غفل العين عنه إنما يتجسد في ما يتردّد عن طباع نصّار الحادّة وجرأته المتفلّتة من كل المعايير وعلى رأسها فصل العمل السياسي عن الكنسي، والتي كثيرًا ما كانت بكركي تدفع ثمنهما غاليًا ركونًا الى واقع أنّ نصار مطرانٌ ينتمي الى سلطتها ويشارك في اجتماعاتها الدورية وبالتالي يتكلّم باسمها.

انقسامٌ عمودي

يصرُّ كثيرون من متابعي الملف على أنّ “الخلفية سياسيّة بحت، وتمّ تحريك القضية أخيرًا تزامنًا مع موقفٍ صريح للمطران نصّار دعمًا للنسبية ورفضًا للقانون الأكثري وهو ما لم يهضمه جنبلاط الذي لا يستسيغ نصّار أصلًا ودوره في دير القمر، وبالتالي رُتِّب الأمر وساهم القواتيون في تعزيز الرأي الجنبلاطي من خلال جملة شكاوى متراكمة على نصّار، فكان ما كان”... ذاك الرأي يعتبره آخرون من عارفي المطران مجرّد “ضحك على ذقون المؤمنين وتسخيف لحقيقة بعض السلوكيات التي تقف وراء تنحية نصّار، فيما الربط بين القرار الفاتيكاني ومواقفه السياسية مجرّد استسخاف للعقول لحشد مزيدٍ من التعاطف مع قضيته، وهو ما يروّج له بعض من تظاهر أمام بكركي والسفارة البابوية أمس الأول مطالبين بعودته الى أبرشيته”. حتى الساعة لم تتحرّك قرية الجذور، صربا الجنوبية التي واظب على إقامة قداديس فيها، دعمًا له، بيد أن تحركًا جديًا على ما علمت “البلد” يتم التحضير له من المؤمنين ببراءة نصّار من كل ما يُنسَب اليه، سينضم الى التحرّك المركزي الذي يقوده ابنُ أخيه والذي سيحاول الضغط على بكركي النائية الى حين التماس الموقف النهائي بعد عودة المطران نصّار.

كتابٌ من 30 كاهنًا

لا يتوانى مؤمنون عن تأكيد أن المطران نصّار “راعٍ صالح” وهو اسم المدرسة التي تلقى فيها دروسه الأولى في الأشرفية على ما يؤكد بعض زملاء المقاعد، وبعض من لقّنهم التعليم الديني بتفانٍ في ثانوية جزين الرسمية طوال سنوات. تبدو في الأمر ضبابيّة حادة مع اطّراد الحديث عن أن مشكلة نصّار “متعمّقة ومخضرمة” حدّ استهلالها منذ زمن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وصولاً الى ولاية البطريرك الراعي. وارتبط مذاك الوقت اسمه بطرد المطران طانيوس الخوري وبعده حنّا الحلو، ومسارعة 10 كهنة آخرين الى مغادرة الأبرشية وهو ما حدا ببكركي الى تعيين ثمانية زوّار حتى اليوم لثنيه عن بعض السلوكيات ودفعه الى المهادنة مع الكهنة، ولكن بعد فشل كل المحاولات وتراكم المشاكل، نفد صبر مجموعة لا يُستهان فيها من الكهنة (قرابة 30) طالبت بحلّ القضية، فكان تعيين المطران بولس مطر زائرًا رسوليًا لهذه الغاية، الى أن سقطت كلّ الآمال فرفع الكهنة كتابًا رسميًا الى الفاتيكان من دون أن تكون لبكركي يدٌ فيه، خصوصًا أن كلّ كاهن يحق له أن يتقدّم بكتابٍ مماثل بغض النظر عن رأي بكركي في الموضوع.

لديه ما يقوله...

تقنيًا وعلى أرض الوقائع التي حدت بالفاتيكان الى مصادقة قرار مماثل بعد مراجعة ملفات سنواتٍ عشر، لا يمكن استنئاف تدبير البابا الذي يمثل السلطة الأعلى في الكنيسة والذي يعلم الجميع أنه لا يمكن أن يتخذ قرارًا اعتباطيًا، ولكن بعد التنفيذ يمكن للمطران أن يراجع ويعمل على تصويب الأمور، وفي هذا الوقت يبقى ناشطًا في رعيته من دون رتبة “أسقف” ويُعيَّن بديلٌ له على وجه السرعة. الى حينها، سيكون لنصّار حتمًا كلامٌ كثير يقوله في معرض الدفاع عن نفسه، ما يعني أن بين يديه وثائق ومستندات قد يكشفها خلال ساعاتٍ بعد فشل مساعيه التوضيحية في الفاتيكان وهو الذي حاول التواصل معه عبثًا منذ أشهر.

من هو الضالّ؟

إذًا، قضيةٌ جديدة تُلقى على منكبَي الكنيسة المارونية في لبنان، تعجّ بكثيرٍ من الكلام الذي لا يمكن إلا لملفٍّ كامل مكتمل من الفاتيكان أن يحسمه ويضع حدًا للألسنة المتعدّية التي تعشق اختلاق التهم جزافًا، ولتلك المنجرفة بعاطفة التضامن من دون أن تعرف ما إذا كان المطران الشاب مستحقًا لحكم الفاتيكان أم لا، وما إذا كان هو الابن الضال أم أن المضلِّلين هم الضالّون؟